ذاكرةٌ توقّع كتابَها

قاطَعَتْ معرضَ الكتابِ سنوات عدّة، دوافعُ خفية قادتْها اليومَ إليه، اتّضحت لها جيداً لما وقعتْ عيناها على لوحةٍ كبيرةٍ تضمّنت ترحيباً بكاتبٍ، فيها صورة رائعة له مع إصدارهِ الأخير.
من ظنّ أنّها ستلتقيهِ هنا في آخر الدّنيا؟ منْ شكّك في كروية الأرض، خصلات شعرٍ ناعمة ظلتْ تتراشقُ على خدّها مرفرفة، حلمَ طفلٍ صغيرٍ أو أشهى قليلاً، ترفعُها بخنصرها وبنصرها، لتعودَ متساقطة على هيئة ترابٍ يتناثرُ من علٍ قليلاً وكثيراً، حتّى يسقط آخرهُ دفعةً واحدة، تماماً كما كان يهمسُ لها فيما مضى.
نسيتْ أمرَ الطوابيرِ والزّحام وألمَ القدمين مذ غادرتْ وطنها معقل الوجعِ، لا تترفّعُ اللحظة عن عشّ بائسٍ عانق جناحيها حقبة لكنْ هنا في المغترب منحَ الزّمنُ قدميها مهمّة أخرى، أعادَ إليهما وصفهما الوظيفيّ الحقيقيّ في الحياةِ. بينما في الوطن لا الحظوظ تنفعُ، لا الأحلامُ ولا القفزاتُ العجيبة. الوطنُ باختصارٍ صحنُك المملوءُ حجارةً وعليك ابتلاعهُ، طحنهُ، دقّهُ بعينيكَ الدامعتين إن شئتَ عشاءً، لا شأن لأحد بك، صحنكَ المُعدّ لهلاككَ كُلْهُ بالموتِ وبالشّفاء.
محمرةٌ خصلاتُ شعرها مذ ولدتْ، ما حدا بجارها رفيقِ الطفولة إلى ندائها بنارة محرّفاً اسمها سارة، لا فرقَ. أخوها المشاكسُ يسمّي شعرها منجم المغنيزيوم والشّركات لا بدّ قادمة يوماً لاستثمارهِ على صورة أفضل. تعدو خلفهُ حانقةً ويدورُ أمامها دوراتٍ عدة ولفارق السّرعة بينهما يلتقيان فيقهقه أمامَ عينيها ممطراً إيّاها بوابل من الكُنى الغريبة “أم غضبان – أم فهمان” وغيرها حتى تبدأ بكاءً هيستيريا يهرعُ لاحتضانها بشيءٍ من الندم، تأخذ بثأرها ضرباتٍ متفرقةً منه، لكماتٍ تنثرها على كتفيهِ وصدرهِ، وما إن يستشعرْ رضاها حتى يعودَ إلى إغاظتها لتجدّد عدوَها خلفهُ، إلى أن يتوارى عن الأنظارِ خارجَ باحة المنزلِ.
تيم وحدهُ من كانَ يشهدُ هذا معظمَ الوقتِ مبتسماً أمامَ البويبِ، لا تدري ما يمكنُ أن تطلقَ عليه فليس باباً كبيراً من خشبٍ أو من حديدٍ، مجرّد ثغرةٍ في الجدار تجعلُ الباحة الأمامية لمنزلها والباحة الأمامية لمنزلِ تيم جسداً واحداً. ما كان الباب فقط يومئذ مفتوحاً – حسب تعبيرِ جدّتها – بل الحياة بأكملها.
تعودُ إلى أرضِ المعرضِ بزفرةٍ، تمرّرُ سبابتها تحتَ جفنها السّفليّ كمن تحرص على مظهرها، لعلّ كُحلها المفترضَ قد ابتعدَ عن الضّفاف قليلا خلفَ بساط الحنين، تراقبُ تموّج الحشدِ أمامها، تزداد أعدادُ من يقفون قبلها بدل أن تتناقص، لكنّ شيئاً ما أقرب من حقيقة المسافات يجعلُها تتمنّى ألا يأتي دورُها أبداً، لكنّها بكلّ بلاهةٍ تقفُ هنا، لا يعرفها بين الواقفين الآن أحدٌ لكنْ تخشى أنْ تُفاجأَ منهُ ببرودةِ الفراقِ الطّويل كما فقدت توهّج شعرها الأحمرِ وشابَ القلبُ دفعة واحدة. هكذا تعنّف نفسها لتعودَ مترفّقةً بروحها الذائبة،تواسيها، فما من حبٍ ميتٍ وحبّ حيّ.
أنسيَتْهُ؟ سُحقاً ليدِها إن أنكرتْ حرارة أصابعهِ النحيلة، الموتُ لثغرها إن تذوّق أشهى من قبلتهِ اليتيمةِ في غفلة الجدران والبوابة الصغيرة، ما غادرَ أذنيها حديثهُ أربعة عشرَ عاماً ولا جفّ حبرُ لسانها، يعيدُ نشرَ غزلهِ المجنونِ معظم مساءاتها. لمَ تكذبُ وهي الخصمُ والحكمُ في محكمةٍ فارغة؟ تديرُ ظهرَها، تهمّ بإلغاء الفكرةِ والمضيّ في سبيلها، تحدّثُ نفسَها: مسكينة تلك المخلوقة المرأة إن انغرست قوائمها في دوامةِ العشق المجنون.
في خضمّ تفكيرها تلتفتُ لترى الجمعَ يتكاثرُ، تزدحم الزّاوية أكثر حيث ينتظرُ الجميعُ فيها خطوط هذا الرّجلِ الغريبِ، وكثيرون تقاطروا بدعوى الفضول أيضاً؛ يتوقف بعضهم للسؤال ثم يغادرون أو يستوقفهم الحشدُ قليلاً ليمضوا وقد غلبهم التعبُ، آخرون مرابطون بلا حراكٍ أمام قداسةِ حرفه، حتى جاءهم نداءٌ لطيفٌ عبر مكبّرِ الصّوتِ يطلب إليهم التوجهَ إلى قاعةٍ أخرى أكبر مساحة، تناهى إلى سمعها قولُ صبيةٍ كرهتها: “من كان حريصاً على لقاءِ كاتبهِ المفضلِ لن يرهقهُ الوقتُ”.
تراءى لها الأمرُ دعوةً إلهيةً للانصرافِ وهي التي لا تُغرقُ في تفسير الأمور على هذه الطريقة، إنّما ظلّتْ صامدةً في ركنها حتّى لاحَ لها شعرُه المعجونُ بالفضةِ، كان يبتسمُ ثم يضحكُ، يلتقط صوراً مع محبّيه في حلقةٍ تضيقُ وتتسعُ، أغراها الأمرُ قليلا بالاقتراب، لكن فضّلتْ أن تحتفظ بالماضي كاملاً بعدم الانضمام إلى أيةِ فوضى، مكبّلةً بعجزها عن التمييزِ في ظلّ فواصل شفيفة جداً، بين الرغبة الملحّة في التذكّر والنسيان الماكرِ.
بحنقٍ همستْ لنفسها: ما أدرى هذا القطيعَ الكبير بما يعشّش في وجدان أنثى مثلي؟ المتثنّون هنا وهناك بانتظارِ الوقوفِ قربه، لا يعرفون كم مرّةٍ حرّك خصلاتِ شعري المرخية بأنفاسهِ، كم أطبقت روحي على حروفهِ السّاخنة خشية النّسيان!
راحتْ أصابعُها الرّطبة تعانقُ كتابهُ، تزدادُ عناداً، بل توقاً إلى معرفةِ ما فيه، لو يرجعُ الحلّ الذي تبخّرَ مع صباحِ القطيعة، تسترجعُ تفاصيلهُ قبلَ الرحيلِ بساعتين إذ تسللتْ إلى نافذتهِ تاركةً له قلم حبرٍ رجتهُ أن يخطّ به كتاباتهِ إليها، وعدَتهُ أن تقرأ ما كتبهُ وكلّ ما سيكتبه.
زفرتْ عمراً كاملاً ضاغطةً على الكتابِ أكثر، ترى نفسها تحتاجُ “لو” كثيراً هذا المساء أكثرَ من أيّ وقتٍ مضى. لمَ تنبشُ القبورَ وما حدث أشدّ وضوحاً من صفحةِ ماءٍ زلال؟ لو كان منتمياً إلى دين آخر أو طائفة أخرى لهبّت جيوشٌ في وجهها، أو من أسرةٍ مغمورة لاقتُلع قلبُها، لكنهُ معارضٌ للسّلطة، موبوءٌ أجرب في عيونهم، من يناقشُ طلبَهُ أصلاً؟
بلُغةِ دمٍ مجنون صافحتْ وجههُ من بعيد، راحتْ ترفعُ قليلاً وجهَها بين الواقفين، تترقّبُ اصطيادَ عينيهِ لكن لا شيءَ من هذا، لعلّه لم يبصرْها بينهم، سيعرفُها إذاً وقد تناقصت أعدادُ المنتظرين أمامَها. هيّأتِ ابتسامةً عريضةً لتقابلَ بها نظرتهُ هذي المرة، لما هزّ رأسهُ مودّعاً صبية وقّع لها الكتاب والتقطتْ صورةً معه، ما نظرَ صوبَها عجباً! إذاً حدثَ أمرٌ ما أو تغيّرت كثيراً؛ أضاعتْ جمالَها القديمَ أو أصيبَ هو بداءِ المشاهيرِ، وربّما جرحهُ ما يزالُ نديّاً. لا، لا، لمَ يلومُها وأوجاعُها ما برحتْ تأكل جسدَها أيضا؟ الأجدى لو أنّها انصرفت بلا توقيعٍ ولا جنازاتٍ متأخرة.
قتلها الصّراعُ حتّى وقفتْ بين يدي كاتبِها تيم. عن يمينهِ جلس صديقٌ لهُ ألقتِ التحيةَ عليهما، رحّبَ بها الكاتبُ سائلاً عن اسمها وهمّ صديقهُ بالكتابة، آلمها ترفّعُهُ أن يخطّ لها مجرّدَ توقيعٍ فرجتهُ أن يكون بخطّ يدهِ، فاتتها ابتسامتُهُ الآسرةُ المشوبة بالعجز، مع شيءٍ ما أرادَ قولَهُ لها حين رفعَ يديهِ المفرغتين من
الأصابع، لم تدركهُ جيداً، أشغلَتْها الوجوهُ المتجهّمةُ للمحيطين بها وهمهماتُهم العاتبةُ جلَدَتْها، بيدَ أنّ أصابعهم تكاثرتْ لتشيرَ إلى عينيه أيضاً.
..
صديقُه في ذلكَ الوقتِ خطّ لها إهداءً باسمِ امرأة، لم تعرفها سارة قطّ.

spot_imgspot_img