حين أنهيت رواية “الشاعر والقرصان” لحمزة كاشغري الصادرة عن دار ميلاد للنشر والتوزيع شعرت بما يشعر به المرء حين ينهي قراءة عمل بديع، سبق وأن قرأت عن كيف لسطوة الفن أن تجعلنا مأخوذين، لكنني لم أختبر ذلك الشعور إلا في مرات قليلة، هذه إحداها..
عمل فريد ولا يشبهه شيء، بالغ الرهافة ومن طراز رفيع، عرفت أنه سيبقيني مستيقظة حتى الساعات الأولى من الصباح..
كنت أنام وصوت الشاعر في رأسي يقول: “الدنيا دولابُ غرائب يا قرصان، وأنا تقلبت فيه، وهو تقلب فيني“، في اليوم التالي شعرت أن بيني وبين العالم زجاج مثلج لا أرى من خلفه سوى صورة شبحيّة لما يحدث خارج روحي، لقد لامستني الرواية بشكل ما، ووجدتني داخلها بطريقة غير متوقعة.. أظن أن كل واحد منّا سيجد شيئاً منه في هذه الرواية، إنها تشبهنا، وتلامس بشكل ما أوجاعنا المشتركة، نحن العالقون في الدائرة نفسها، في الثعبان الملتقم ذيله، تلازمنا لعنة الدولاب الذي لا يتوقف..
“إننا كلنا، كلنا بلا استثناء، كل الموجودات، نحن والقطط والغزلان، والغزلان التي تستحيل هداهد، نقتحم الدوائر نفسها، جميعنا حجاج في طريق الحياة نفسه، وكلنا بلا استثناء، علينا أن نضيع أنفسنا قبل أن نجدها مجدداً”
يبدو لي أنها رواية تُقرأ على مهل، مع أنني قرأتها تقريباً دفعة واحدة، لكنني عدت مره أخرى لأقرأها على مهل، وكم شعرت بالفرق. كانت افتتاحية الرواية بديعة وتجعلك تدخل أجواءها بكل خفّة، ثم تكمل وتعتقد أن الرواية ستسمر على هذا المنوال لكن ليس هذا ما سيحدث..
ربما صادفتني جزئية بعد المقاطع الأولى البديعة، شعرت فيها أن الرواية تذهب إلى منطقة أخرى لم أكن أنتظر أن تذهب إليها، وربما لأن الكاتب شاعر، كنت أتوقع وأميل في الوقت نفسه لأن تكون الرواية شاعرية. شعرت بالرضا حين وجدته يبدأ الرواية بتلك الطريقة، ثم فاجئني حين تحوّل إلى السرد، كان الأمر مقبولاً إلى حد ما لكنه كان أفضل حين كان في المنطقة التي يبدع فيها، ربما حاول الكاتب أن يجرّب أن يكون سارداً لكنه سرعان ما عاد إلى طريقته الأولى، ومن هذه اللحظة التي يعود فيها الكاتب ليمسك دفة الرواية بشاعرية ستعرف أن الرواية لن تكون بالشكل الذي تصورته في البداية، أو لنقل ليست بتلك البساطة التي تبدو لك وأنت تدخلها بتلك الخفة، ستدخل أجواءها هذه المرة بشكل آخر وستشعر أنك داخلها تماماً، وكلما تقدمت فيها ستشعر بالدهشة..
ربما النصف الثاني من الرواية تقريبا هو أكثر ما يحتاج أن يُقرأ على مهل، لأن التكثيف والشاعرية والشخصيات والأحداث تزدهر في هذا الجزء منها ولأنها ستأخذك في دولابها دون أن يكون لديك خيار..
رواية مليئة بالشعر والمجازات والصور، فيها رمزية عالية. تخللتها بعض التضمينات كانت متسقة تماما مع النص، عمل ستشعر برفقته بالمتعة الخالصة.
صحيح أن الرواية تحتاج إلى متلقي يكون قارئ ولدية خلفية معرفية جيدة، لكن كل ما جاء ذكره وورد في سياق ما في الرواية ليس موغلاً في الغرابة، يستطيع القارئ العادي الذي لديه حد أدنى من المعرفة أن يتلقى هذه الرواية بشكل جيد ويستمتع بها، فالأساطير والأعمال الفنية والشخصيات الروائية والرموز المستوحاة منها، وحتى التضمينات، غالباً معروفة ولا تحتاج إلى قارئ نخبوي…
ربما في هذه الرواية قد كشف الكاتب عن روحه بالكامل إلا قليلاً، تقريباً قال كل شيء يود قوله بطريقة مجازية مدهشة، تعمّد الإسهاب في أشياء، دون أن يطفئ ذلك روح النص، واختار الايجاز في أشياء أخرى واكتفى بإشارة في مرات، فعل ذلك بوعي عال بواقع الحياة، ممن خبرها جيداً وله تجربته العميقة والخاصة جداً فيها، إلا أن ذلك لا يجعلنا نعتبر الرواية بالكامل كشف ذاتي، إذ أننا بشكل ما نستطيع أن نفرّق بين ما يخص الكاتب وما لا يخصه..
قبل البدء بقليل كان القرصان، من العنوان بدى لي أن القرصان هو الصديق الذي تتكأ عليه، لأنه الأكثر صموداً رغم
ما تركته المعارك على سحنته، والأذكى في المواساة رغم أنه لا يتكلم..
يشعر الشاعر برفقته أنه ليس وحيداً، يشكو إليه سوانح نفسه وغربة روحه ويبثه أوجاعه، يحدثه عن الفوات، والمجاز، وعن الدنيا ودولابها، وعن المحاولات وعن الحب والمغامرة الغير محسوبة فيه وحياة المنتصف..
“كنت أخشى الفوات دائماً من كل شيء، أخشى أن تختفي الكلمات قبل أن تُقال، وأن يضيع الدربُ قبل أن أسلكه، وأن يغيب قرصان عني مجدداً دون أن نخبر بعضنا بكل شيء! لهذا وجدتني مدفوعاً بالحديث المسترسل عني، كنت أنساب كنهر وأتدفق كشلال وأتفجر كيبنوعٍ من الكلام، الدنيا دولابُ غرائب يا قرصان، وأنا تقلبت فيه، وهو تقلب فيني، الدنيا دولاب عجائب يا قرصان، وأنا كنت أظن أنني كنتُ سأتوقف عن الاندهاش، الدنيا دولاب متاعب يا قرصان، وأنا تجرعتها كما يتجرع الأطفال أدويتهم المُرّة..”
لكأن الرواية دولاب والشاعر مركزها، وهكذا تمضي بنا، تبدأ الشخصيات بالظهور تباعاً، في تسلسل عجيب، تتقاطع كل شخصية من الشخصيات مع الشاعر وكأنما كي تضع كل واحدة منها قطعة البازل الخاصة بها في مكانها المناسب في روحه،
في البدء كانت الأخت ثم الحبيبة التي لم تعد حبيبة ثم البقية، أما القرصان فهو سيّد الرواية، جاء قبل البدء بقليل، وليس لديه قطعة بازل يضعها في المكان المناسب لها، بل له الروح بأكملها، وكأنه والشاعر صنوان..
ينتقد الكاتب بطريقة جميلة الدمار الذي يلحقه الإنسان بالطبيعة، من خلال القرصان الذي يلقى خطاباً صارماً شديد اللهجة في حشد من القطط، يدين فيه الإنسان والدمار الذي يلحقه بكل شيء:
“إن الطبيعة مبنية على التناغم شديد التعقيد، الأمر أشبه بمعادلةٍ هائلة، إذا قتلت طائراً هناك، ستنجو دودة هنا، إذا حرقت سلالة الشجر هذه، فأنت حرمت فصيلة من الحيوانات من موطنها الأصلي وأرسلتها للهلاك.
من الذي أفسد هذا التناغم؟ من هو السيد الأوحد الذي مكنّاه من رقابنا فلم يكن سيدَا عطوفاً ولا جيداً، يا قطط العالم تجمعوا، يا قطط العالم اسمعوا، يا قطط العالم اصغوا جيداً، إن الإنسان هو العدو”
وبقدرة رائعة استطاع الكاتب أن يجعلنا نقف على مأساة فقدان المرء لنفسه حين يحاول مجاراة العالم الذي لا يشبهه في شيء، سيصحو ذات يوم بلا شك ولا يعود يعرف نفسه..
” أنا لست بخير، أنا أعاني كثيراً فقط لأبدو مثل الناس العاديين، لكنني أعرف في أعماق نفسي أنني لن أكون مثلهم، حِملي ثقيلٌ جداً، وأنا بالكاد أحمل نفسي، أنا لا أتذمر – ربما أتذمر – لكن أود القول فقط أن حملي ثقيلٌ وأنني أحتاج لمن يفهم ذلك، الفهم لا يجعل حِملي أخف، لكنه يجعل ظهري أقوى، لقد تحولت إلى حشرةٍ عملاقةٍ بحمل ثقيل، فقدت نفسي قطعةً قطعةً حتى أشبه الآخرين، لطالما كان الاغتراب ينهشني في كل مكان، إلا أمام المرآة، لم أكن أشعر بالانتماء إلا إلى وجهي الذي لم أعد أعرفه، لم أعد أحبني، وأنا لا أعرف وحدةً أشدّ من ألا يحب الإنسان نفسه”
وبطريقة بديعة ومرهفة للغاية يحكي لنا حكاية الذي أضاع فرصته الوحيدة ولم يعوضه شيء..
“استجمعت كلامي دفعة واحدة وأنا أقف بجواره وأضع يدي على كتفهِ، حدثته طويلاً عن الندم الذي لا يجدي بعد الفوات، وعن نعمة الوصول المتأخر في مقابل عدم الوصول، عن الارتحال والدرب والرحلة، وعن اللعنة التي تصيب الأشخاص الذين يفلتون الهبات بعد أن تصبح في متناول أيديهم. غرق في صمتٍ طويلٍ يتناسب مع لوحة فان جوخ المعلقة أمامه لسجناء يدورون في دائرةٍ لا نهائيةٍ وسط حرّاسٍ يحملون العصيّ والوعيد لكل من يجرؤ على خرق السكوت”
ثم تظهر شخصية أخرى، استطاع الكاتب أن يخلقها بتركيبة عجيبة وإتقان يثير الإعجاب، إنها من الشخصيات التي لا يمكنك أن تنساها، وفيما بعد ستتبين كيف يمكن للناس أن يصنعوا من أي شخص أسطورة..
“لا علاقة لحمود السمة الذي عاش وترعرع في إحدى الأحياء الفقيرة في جنوب جدة بالفنان حمود السمة، ولا بصوته على الإطلاق، الناس هنا يسمونه حمود حصان، لديه رقعة شطرنج لا تفارقه بعد أن أخذ على عاتقه تعليم معظم أبناء الحارة وجعلها الهواية الأكثر شعبية وسط الأحياء التي لم يكن أبناءها يمارسون غير كرة القدم في الأزقة الضيّقة أو الملاعب الترابية البعيدة، كان حمود حصان يقضي ثلاثة أرباع يومه في اللعب مع الآخرين أو مع نفسه”
كما يطرح الكاتب فكرة كيف يمكن لشخص يبحث عن نفسه أن يرى فيه الناس نقيض ما هو عليه، وكيف يضعونه في مكان غير مكانه ويصنعون هالة حوله..
“إدماني للتجارب أورثني عطشاً لا ينفد، وسعيي نحو الحقيقة أورثني ركضاً لا ينتهي، وقد أنهكني التوق لما لا أعرفه، الدنيا دولاب غرائب يا قرصان، وأنا أجدني الآن محاطاً بالأتباع والمريدين لكن الاغتراب لم يخرج من روحي في يومٍ من الأيام، يتناقل الناس كلامي مثل وصايا بينما لا زلت أراني محض مجنون يتفوه بالتناقضات طوال الوقت”
وأخيراً ينهي الكاتب الرواية بطريقة بديعة كما ينبغي لشاعر، ولن أقول أكثر من ذلك.