في الليل،
وأنت تضم دُميتك بين يديك
وتعد على أصابعك الصغيرة
واحد،
اثنان،
ثلاثة..
عشرة.
يتسللون من باب خفيّ،
يجرون قلوبهم الصدئة
وحقائبهم الغالية،
يمحون أيامكم سوياً
يختفون كفقاعة صابون
تتلاشى ذراتها في الهواء..
حين يرحل الآباء
ويتسرب الغياب من أصابعهم
يحتفظون بأشيائهم الثمينة
مقتنياتهم المهمّة
ويدعون أولادهم عُراة لليّل
للكلاب الضالة
يعلقونهم على المذابح
وعلى صكوك الغفران.
يرحلون
لا ينظرون خلفهم
إلا لماماً
لا يلتفتون للأصوات التي تلاحقهم
لا يسمعون الصرخات
والأنّات.
يتركون لهم:
أفئدةً مضطربة،
أقداماً مترنحة
طعمَ المرارة،
غصة في الحلق،
انقباضة في القلب،
وإخفاقة.
يتركونك تتعفّن في الظلام
يشيرون إليك من خلف أبوابهم
يمنحونك رغيفاً وألماً
صفعة على الخد،
أو نبتة صبار
يغلقون خلفك بالمتاريس
يتركون على عتبة بيتك
ظرفاً من المال
وحفنة من الذنب،
ثم يختفون،
يطاردون عطراً
أو ذئباً في الصحاري
يتصيدون غزالة في البراري
أو نمراً شرساً
يبتلعون سمكة حمراء
أو قنينة خمر،
يردمون الطرق التي تصلكم
يملأونها بالأشواك والنصال،
يضجرون
يحنّون
يتلبسهم السأم
واليأس
يعودون
بأيادٍ خَشِنة
وعيون من جحيم
وأقدام تفرك في الطين،
يهجرونك كجيفة
أو ورم خبيث،
كتلة فاسدة
لا يدنو منها أحد،
ينسون اسمك، شكلك
يجهلون الهيئة التي صرتها،
يتخبطون إذا ما تلاقت الأعين
ـ صدفة ـ
تتقابلون كالغُرباء
تتيبّس الكفوف في السلام
ترتجف
توهن
تبرد.
قلبك أيضاً يُصبح بارداً،
ولسانك
تجف الكلمات على طرفه،
(كل الكلمات تُعري
يُتمك
هشاشتك
ضآلتك
الدمعة في عينك).
عُمرك يضحي منسياً
تعود إلى رحم الأم
قبل النطفة التي صرتها
ويتوقف الزمن هناك
تنحل الخيوط التي تربطكم
وتلتف حول عنقك
تموت
ولا
تموت..
حين يرحل الآباء
يذهبون إلى البلاد البعيدة
يسكنون قصورهم العاجية
يأتون بامرأة بورقة سيلوفان
ولسان مدبب
وصوت يئن
ينامون بين فخذيها
ويشعلون الشموع
امرأة تُنجب لهم أبناء جُدد
لم يمسسهم طعم العطب بعد
ولا يعرفن الخذلان
(لم تُترك كفوفهم تلوح
في الأُفق
وتنتظر العائدين
تترجى سحابة بيضاء
أو قطعة سكاكر
كفوف من مخمل
تروح وتُجيء
يميناً ويساراً
هُنا وهُناك
حتى تتوقف الساعة
ويتعب الربْ).
أبناء جُدد
لم يحملوا القناديل
ويطوفوا الشوارع
بحثاً عن أب حنون
أو معطف شتوي.
أبناء لم يجربوا الموت مرة
ولم تجرفهم أمواج البحر
أبناء لم يحلقوا رؤوسهم بيأس
ويقطعوا عروقهم بغضب..
أبناء من أقمشة زاهية
محشوة بالقُطن الأبيض
وأصابع طرية
تلوي عنق الأرنب
وتضرب بالسوط على الماعز.
أبناء، في النهارات السعيدة
يلتفون حول مائدة
من أربعة كراسٍ خشبية
مرصوصة باللحوم المشوية،
وأطباق الأرز
والسلطة الخضراء
يملأون أفواههم بالطعام
والضحكات الصاخبة
بينما يلوحون لك أن تذهب
بعيداً
بعيداً
بعيداً
وينادون:
بابا
بابا
بابا
يرجونه،
“أوصد الباب في وجه الوعثاء
الغربان تنعق في الخارج”
ويندثرون بين أضلعه،
يغلقون المصابيح
والشبابيك
والستائر
قائلين:
“كم جميلٌ أن نمتلك أباً مثلك”
ينظر إليهم بأعين عطوفة
قائلاً:
“كم جميلٌ أن أمتلك صغاراً مثلكم”.
حين يرحل الآباء
ويهجرونك
تنبت لك مخالب وأنياب
وجدران من عجوة.
تتكحل عيناك بالرماد
ويتكدس فمك بالدم
تمشي وأنت تتحسس
ظلاً
يمشي
خلفك
يشبه
ظلك.
تنصت إلى وقع خطواتك
تسقط في أيدي رجال قُساة
رجال يريدون امرأة بصوت مرتعش
وجسد من شمع،
تذوب بين أصابعك الغليظة
تستسلم لنوبات غضبهم،
تقع في فخ سطوتهم
ترتق جراحهم،
بينما يشقون جسدها
تمسح دموعهم
يمتصون دمها
يمرون بألسنتهم على لحمها الطري
يمضغون
يلتهمون
ينتحبون
بلذّة
ونهم..
تضع قلبك الليّن على الطاولة
قائلاً:
أنا أيضاً كان لي أب في يوم
في هذا الزمن أو ذاك
قبل أن آتي إلى هُنا
قبل أن تملأ ألهبة الدخان أنفاسي
ويشق الرجال نحري،
قبل أن يصبح الموت شهياً
كحبة كرز على فمي
والحُب تنهيدة على صدري،
قبل أن نودع أطفالنا القبور
في النهار
ونحلم بعالم سعيد في الغد..
وتقول أيضاً،
وأنت تخفي شقاً في بطنك
وكدمة في ذراعك:
كنت ابنة وديعة
شقية،
تمتلك ألعاباً وعرائس بلاستيكية
تمتلك يدين وقدمين
وضفائر وغُرّة
قلباً من الياسمين
وروحاً من رخام
فساتين مزركشة
كشاكيلَ وألواناً
مصاصة بالفراولة
وفشارات بالكراميل
سلاسل فضية
خواتم وأقراطاً
وشورتاً قصيراً
وشراباً أسود
(ويداً متسخة
تشد وثاقه)
كنت ابنة تمتلك لساناً وخنجراً
تلعق بلسانها آثامها في الليل
وتضع خنجراً بين ثدييها في الصباح
وتخرج من البيت
تستجدي النور
تشتري خُبزاً ووردة حمراء
تشرب القهوة
وتنتظر
أن
تمر
الساعة
ويأتي..
تلبس فُستاناً وردياً، وتمشط شعرها
وتترك قدميها في حذاء بلا أربطة
تركب دراجتها الصفراء
وتطوف في المدينة
تذهب إلى شط البحر
وتراقب البحارة
وتحلم بالغرق.
وكانت هُناك طائرة ورقية
ترتفع في السماء الزرقاء
وأصابع صغيرة تدفعها إلى أعلى
بينما الأرض تهتز تحتي
ويخفق قلبي في وجل
ينطلق جناحاي
تمتلأ ركبتاي بالخدوش
وأرتمي على فضاء صلب
وأسفل عرشة عنب
تقع على رأسي حبّات ناضجة
أصاب بلوثة في فمي
تترقرق شفتاي، وأدوخ
تدنو مني وتلثمنى
أفرد أشرعتي في البحر الهائج
وأمر بقلب نابض، إليك
أسمع صوتك دافئاً وشهياً
يُناديني
يشدّني إليه
تصب كلماتك في أذني
تعصر بُرتقالة في فمي
قطرة
قطرة
تسقط،
وتجثو على ركبتيّ
تنظر إلى عينيّ بورع
تعض ثدييَّ بأسنانك
تغمض عينيك
وتبتعد
تاركاً جسدي
كثمرة رمان
تنفرط بيننا.
ينظر إلينا القمر من عليائه
يتتبع بحدقتيّ عينيه السوداء
جسدينا العاريين
إلا من آثار أناملك الدقيقة،
وبقع بنفسجية على فخذي
يصاب بالدوار
يشتهيني
مثلك.
تتراقص النجوم على جلدي
نغفو في سكرة
وابتهال
بلا تاريخ وآلام
بلا آباء وآلهة قُدامى
آلهة هُناك مُنذ الأزل
مُنذ أن مُدّت يد لينة
وسكبت جسدينا
وسكنت.
آلهة
غارقين في الصمت
يصوبون نظراتهم من بعيد
يرسلون رحماتهم ولعناتهم
مغفرتهم وغضبهم
يرسلون:
أبناء بلا آباء
آباء بلا قلب
قلب من الديناميت
يرسلون:
آباء لليتامى
آباء للبيع
آباء للإيجار
آباء للكبار
آباء لكل المواسم
آباء بشوارب طويلة
وأقدام سلاحف
آباء يتوسدون الدمع
وآباء يخدشون الوجه
آباء آباء آباء..
آباء لكل البشر..