في طفولتي، تخيلت دائماً أن العالم بأكمله شريطٌ طويلٌ على البحر، لم تدخل فكرة القارات ذهني ولم أقتنع بها إلا بعد أن تخطّيت سنوات الطفولة تلك. بنيتُ فكرتي تلك على تكوين مدينة الإسكندرية التي عشتُ بها معظم سنوات عمري، ففي الإسكندرية تبدو المدينة مثل شريط على البحر المتوسط، ومن الغرب هناك بحيرة مريوط الضخمة، والتي تقلص حجمها كثيراً منذ سنوات بالردم والبناء عليها.
أفكر كثيراً في مصدر ذلك التصور الطفولي عن العالم، والذي أتصور أن مصدره هو جغرافيا مدينة الإسكندرية نفسها، فطريق البحر أو الكورنيش هو الطريق الأساسي بالمدينة، تقطعه شوارع ويوازيه طريق الترام وطريق أبي قير، فتبدو المدينة مثل أشرطة متوازية وبها طرق متقاطعة لتلك الأشرطة.
إذا ضللت الطريق في مدينتي ما عليك سوى الاتجاه نحو البحر وسيرشدك للطريق الصحيح، تلك هي النصيحة التي نقدمها كسكندريين للأغراب عن المدينة، فطبيعة تلك الجغرافيا جعلت التوهان فيها شيئاً صعباً، حتى قبل اختراع خرائط غوغل.
بحفنة من الحبوب في يده، أمسكها الإسكندر ممتطياً حصانه ليرسم حدود المدينة، تحرك على طول ساحل قرية “راقودة” حتى أمر ببناء ما يربط تلك القرية بالجزيرة المقابلة لها وَردم الطريق بينهما، ظلت الحبوب تتسرب من يده على طول الساحل، لتخرج الإسكندرية بذلك الشكل لسنوات طويلة كشريط طولي على ساحل المتوسط.
يخبرني صديقي الذي عاد للتو من زيارته إلى اليونان بالشبه الكبير بين المكانين، شبه في الروح والجغرافيا البسيطة، أفكر في الإسكندر كثيراً حينما أتحرك على الكورنيش وأتخيل حفنة الحبوب في يده تتسرب من خلال أصابعه لتتساقط على الأرض وترسم حدود المدينة التي صنعها ليخلد اسمه. مدينة لا يتوه فيها أحد من فرط قربها من البحر الذي سيظل طوال الوقت أكبر مؤثر فيها.
كنت أعرف أنه بسبب البحر تظهر المدينة بتلك الجغرافيا المعتمدة على البحر، كنت زرت من قبل الكثير من المدن الساحلية على المتوسط في مصر، وكلها تُعدُّ نسخاً مصغرة من الإسكندرية أيضاً. لم أكن زرت مدناً ساحلية أخرى خارج مصر قبل افتراض ذلك، فوضعت ذلك التعميم كأن الإسكندر بنى كل المدن الساحلية الأخرى، لكنني اكتشفت أن ذلك التعميم كان غريباً.
زرتُ، في العام الماضي، مدينة “جدّة” التي تقع على ساحل البحر الأحمر ومنذ أول لحظة قضيتها في المدينة بحثت عن البحر، مثل أي مدينة ساحلية أعرفها تخيلت أن البحر هو الأساس والبناء الأول في المدينة لكنني قضيت أكثر من شهر كامل بالمدينة دون أن أرى البحر.
في جدة، تحرّكت في المدينة بأكملها دون اللجوء لطريق الكورنيش، ورغم جمال الكورنيش والبحر الماثل أمامي دون عوائق تزيحه عن بصرك، انتابني هناك شعور بأن البحر مهمش، رغم أن بدايات المدينة مثل أي مدينة ساحلية هو الصيد وهو ما عُرِفت به المدينة قبل الإسلام. لكن على عكس توقعاتي بالنسبة لمدينة ساحلية لم تصمم المدينة اعتماداً على البحر كأساس للمدينة، صمّم الجانب الحديث من المدينة المهندس المعماري “محمد سعيد فارسي” والذي كان المصمّم الحديث لشوارعها وساحاتها والنصب المتناثرة فيها، حيث امتلك القرار بوصفه أميناً للمدينة.
عند المشي في شوارع جدة المليئة بالنصب والميادين الجميلة، أفكر أن من قام ببنائها ابتعد تماماً عن المدن الشبيهة بالإسكندرية كمدينة متمركزة على البحر تستمد منه وجودها وجمالها. للدرجة التي جعلت حجب البحر عن سكان الإسكندرية بمثابة حرمان سكانها من التواصل مع مدينتهم بشكل كامل.
في جدة، رغم جمال البحر والكورنيش المفتوح أمام سكان المدينة، نستطيع أن نختار تجاهله لفترة طويلة بلغت شهراً كاملاً في حالتي، دون إحساس بأن هناك شيئاً مفقوداً.
في ذلك العام زرت جدة ثانية، في تلك المرة قررت رؤية البحر، سألني صديق ألتقيه لأول مرة بالمدينة عن المكان الذي أفضله لنلتقي فيه، أخبرته أنني لم أرَ بحر تلك المدينة وتلك أزمة لدي لأنني لم أستطع الشعور بالمدينة دون بحرها، اخترنا مطعماً على البحر مباشرة ليبهرني مشهده.
التقطت الكثير من الصور للبحر وَلي، وحينما اشتريت هاتفاً جديداً في نفس اليوم وضعت صورة البحر خلفية للهاتف. كان البحر الذي رأيته يشبه بحر الإسكندرية الذي عرفته منذ سنوات، لم يكن المتوسط لكنه يشبهه في هدوئه وقوة لونه، ورغم ارتفاع درجة الحرارة قررت أن أظل طويلاً أمام البحر، بجواري امرأة على كرسي مدولب ومن حولها ابنتها تتحرك بقمع الآيس كريم، بينما لا تكترث المرأة لحركة البنت، تسرح بنظرها بعيداً للبحر وأنا بجانبها أشعر في تلك اللحظة بالتواصل بيننا.
أعادني البحر في جدة لتصوري الطفولي عن العالم. شريط طويل يطل على البحر وأمشي عليه دون وصول لنهاية يربط كل المدن الساحلية ببعضها لنصير شعباً ساحلياً واحداً يستمد من البحر وجوده وروحه دائماً.