المتداول عن المفكر اللبناني شارل مالك أنه كان العربي الوحيد الذي شارك في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وإعداده سنة 1948، بصفته رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة، بالإضافة إلى تولّي منصب وزير خارجية الجمهورية اللبنانية فيما بعد.
ارتبط اسم مالك بالرئيس اللبناني كميل شمعون في مؤازرة فكرة الأحلاف (الأحزمة المتحالفة التي تحاصر الاتحاد السوفياتي، أو تصد امتداده)، خصوصاً حلف بغداد، ومصادقة بريطانيا العظمى والولايات المتحدة الأميركية في مواجهة المشروع الناصري، ويمكننا أن نقول في هذا السياق إنه كان صديقاً مقرباً من ممالك الخليج وإماراته. وكان موقف مالك من جمال عبد الناصر سبباً ليشنع القوميون عليه ويتهمونه بأنه عميل أميركي صهيوني وإمبريالي.
اطلعت أخيراً على كتيب صدر عن منشورات “النهار” عام 2005 لشارل مالك عنوانه “إسرائيل.. أميركا.. والعرب ـ تقرير في الوضع الحاضر ـ تنبؤات من نصف قرن”، وهو عبارة عن وثيقة أو تقرير رفعه مالك إلى رئيس الجمهورية اللبنانية وَوزير الخارجية سنة 1949، موضوعها، كما يقول غسان تويني، “تحليل علمي بل فكري شامل وعميق لواقع إسرائيل ولمطامعها بعد سنة واحـدة فقـط من إنشائها. ثـم تحليل للسياسة الـدولية وللسياسة الأميركية بنوع أخص، مع مقارنة بالسياسات الأوروبية، وماذا يمكن للعرب أن ينتظروا من هذه وتلك؟”.
“إن التحرر ليس سلاحاً فقط، الأهم هو التنوير والحرية”
في سنة 1949 رفع شارل مالك تقريره إلى رئيس الجمهورية، بعد مرور سنة على قيام إسرائيل، وتناول نقاطاً من المهم تأملها اليوم مع مراعاة زمنها، وأشير إلى هذا التقرير هذه الأيام في ظل الأحداث الملتهبة. منذ العام 1949 يقول شارل مالك إن وزن العرب في أميركا لا شيء بالنسبة إلى الحركة الصهيونية، لذلك حين تتصادم المصلحة الإسرائيلية مع المصلحة العربية ستقدم الولايات المتحدة المصلحة الإسرائيلية.
قال مالك إنه برغم الحيف الذي أوقعته الولايات المتحدة على العرب بدعم قيام إسرائيل، إلا أن الشعب الأميركي، في جوهره، طيب ونبيل، وتوقع في المستقبل البعيد أن ينتفض الشعب الأميركي على السيطرة الصهيونية. ينصحنا شارل مالك قبل أكثر من 60 سنة بألا نغتر بمواردنا الطبيعية، النفط خصوصاً، وموقعنا الاستراتيجي، لأنهما من العوامل التي يمكن التغلب عليها، فالرهان فقط على الإنسان ولن يكون للعرب وزن إلا إذا أصبح الإنسان العربي مؤهلاً لأن تستشيره الحكومات الغربية في الصناعة ومختلف العلوم، وأن يصبح نتاج المفكر العربي والعالم العربي موضوع تدريس في جامعات الغرب، وفي ذلك الوقت تنبّه مالك إلى أهمية الدعاية والإعلام، مع أنه لم ير مطلقاً ثورة الاتصالات الراهنة.
قال مالك بوضوح عام 1949 إننا لن تستطيع “أن نكبّ الصهاينة في البحر” لا في سنة 1949 ولا في المستقبل المنظور. فمن حيث المبدأ لن يستطيع العرب خوض معركة تحرير فلسطين وحدهم.
راهن شارل مالك على الولايات المتحدة على الرغم من قوة اللوبي الصهيوني، وتفاءل أكثر بدور أوروبي، وطالـب العرب بالانفتاح على الهند، لكنه حذر، بضراوة، من أي تحالف عربي ـ روسي. كان مالك صلباً وقاطعاً وثابتاً على موقف سلبي من الاتحاد السوفياتي، وحين أصبح وزيراً للخارجية توج هذه العقيدة بمعاداة الاتحاد السوفياتي بكل السبل.
وعلى الرغم من مسيحيته فقد كان مالك منحازاً ضد الناصرية إلى منهج التضامن الإسلامي الذي تبنته المملكة العربية السعودية.
أهم عوامل تحرير فلسطين، كما قال مالك، كامن في النهضة العربية. هناك حاجة إلى تقوية الجيوش العربية وتطوير الجامعة العربية لتصبح حلفاً، لكن الأهم في كل ذلك هو تطوير الإنسان العربي.
حركات التحرر حين بزغت في منتصف القرن العشرين، اعتمدت على المفهوم العسكري، وقد احترمتُ مالك يوم قال، قبل أكثر من نصف قرن، إن التحرر ليس سلاحاً فقط، الأهم هو التنوير والحرية.
بعد مطالعة فكر شارل مالك، أدعو النخبة العربية إلى إعادة اكتشاف تراثها القريب وإنصافه، فأهم ما لفتني في الكتاب حضور قيمة النقد الذاتي، وهي ميزة نادرة قبل 60 سنة، لذا يستحق منا شارل مالك أن نوجه اليه تحية شكـر وعرفان على وثيقته المستقبلية القادمة من حكمة التجربة، ولمحات الماضي الجميل.