في ذاكرة الأغنية العربية آلاف الأغنيات التي تتحدث بلسان حال المرأة، العاشقة المشتاقة، المُحِبّة المظلومة، الثائرة على واقعها، المتطلبة التي لا ترضيها الحلول الوسطى، والتي تشعر بأن العمر مضى وأن الزمن ترك آثاره على ملامحها. آلاف الحكايات والنساء، والكثير من الأغنيات التي ترددها الألسن، وتذيعها المحطات، وتحفظها الجماهير، دون تفكير متعمق في الصبغة الطاغية على خطابها.
هنا، رصد لأبعاد تحوّل صورة المرأة في الأغنية العربية، منذ الحقبة الذهبية لها وحتى زمننا الحالي، واستشهاد بأيقونة من كل حقبة زمنية، وبأشهر أغنياتهن، للوقوف على لسان حال المرأة في تلك الأغنيات، وأهم قضاياها وكيفية تغيّرها عبر الزمن.
كوكب الشرق.. عن حب الرجل، والأرض، والسماء
تميزت أغاني الحقبة الذهبية التي تزخر بأسماء كبيرة في عالم الموسيقى منها ليلى مراد، وأسمهان، بالتنوع والثراء في مواضيع الأغنيات وكلماتها وألحانها، وربما تعد تجربة كوكب الشرق، أم كلثوم، خير مثال على هذا التنوع.
تتفق شريحة من الجمهور على أن أم كلثوم تعد أسطورة موسيقية بمساحة صوتها وقدراته وعاطفته، لكن البعض يرى في فنها مشروعاً موسيقياً متكاملاً، تضافر فيه الصوت الشجي مع اللحن البديع والكلمة المعبرة، لتقدم إلى العالم تحفاً فنية في صورة أغنيات.
وبالنظر عميقاً في اختياراتها الشعرية، سنجد في أم كلثوم ميلاً إلى الانتقائية والذائقة الشعرية المرهفة، التي تبحث عن الكلمة الساحرة في جميع الأزمان. لم يقتصر تعاون أم كلثوم الغنائية مع شعراء من حقبتها ومساحتها الجغرافية، بل غنت ”أراكَ عصي الدمع“ لأبي فراس الحمداني، الشاعر العباسي، وغنت من ترجمة الشاعر المصري أحمد رامي ”رباعيات“ الشاعر الفارسي عمر الخيام، إضافة إلى “هذه ليلتي“ للشاعر اللبناني جورج جرداق، و“من أجل عينيك“ للأمير عبد الله الفيصل، إلى جانب تعاونها مع كبار شعراء مصر، أحمد شوقي، حافظ إبراهيم، بيرم التونسي، إبراهيم ناجي وآخرين. وبالرغم من أن أم كلثوم تغنت دوماً بقصائد لشعراء ذكور، إلى أن اختياراتها الغنائية للكلمات يمكن أن تشي بصورة المرأة الشائعة في تلك الحقبة. فسنجد الحبيبة التي فاض بها الصبر في “للصبر حدود”، والمستضعفة أمام الحنين للحب القديم في “دارت الأيام” والمسكونة بعاطفة جياشة في “أنت عمري”، ثم نخرج من إطار العشق الآدمي إلى العشق الإلهي، فتصادفنا المرأة المتضرّعة في “برضاك يا خالقي”. وبالرغم من أنها قدّمت الأغنية الوطنية عن قصائد لشعراء رجال، إلا أن تغنّيها بروح المقاومة والدفاع عن الأرض بصوت أنثوي، قدّم صورة مغايرة عن دور المرأة الوطني، تتخطى مباركة المقاومة ودعم الرجل بأدعية النصر، إلى المشاركة فيها بشكل عملي، أو ربما هذه الصورة التي ترتسم في ذهن المستمع إلى أغنية مثل “أصبح الآن عندي بندقية”، التي كتبها نزار قباني، بلسان أنثوي.
السبعينيات: فيروز.. البساطة ودفء التفاصيل
رغم اقتران السبعينيات بآثار النكسات السياسية التي عاشتها المنطقة العربية في الستينيات، وخيبات الأمل العربية المتلاحقة حيال الوضع السياسي المضطرب فيها، إلا أنها كانت حقبة انفتاح فني وثقافي في الأغنية العربية، بتقديم فيروز نمطاً غنائياً جديداً، يتمثل بالأغنية القصيرة ذات الموضوع المحدد.
دعم مشروعَ فيروز الفني ”الأخوين رحباني“ وأخوهما الأصغر إلياس. قدّمت مئات الأغاني التي أحدثت ثورة في الموسيقى العربية لتميزها بقصر زمنها وكثافة معناها. وبعيداً عن القصائد المركبة بتعابيرها المعقدة، وسبكها اللغوي الصعب، كانت أغاني فيروز بسيطة، تعتمد على عمق الفكرة الموسيقية وتنوع المواضيع.
قدمت فيروز عن طريق أغنياتها صوراً مختلفة للمرأة، فغنت بصوت الأم “نامت ريما”، والمناضلة في “زهرة المدائن”، والعاشقة في “بعدك على بالي”، واليائسة “لا انت حبيبي ولا ربينا سوى“، وغنّت الحزن والفرح والغربة والسفر.
عدد كبير من الأغاني في رصيد فيروز، ضمن مسرحيات، بلغت 15 مسرحيّة من تأليف وتلحين الأخوين رحباني، تراوحت جرأة قضايا هذه المسرحيات بين نقد قضايا الحب والعلاقات الاجتماعية إلى نقد الأنظمة والشعوب وتمجيد البطولات.
وإضافة إلى الرحابنة.. غنت فيروز لكثير من الشعراء والملحنين، منهم الشاعر اللبناني ميخائيل نعيمة في أغنية “تناثري”، وسعيد عقل في “لاعب الريشة”، وهو الذي أطلق عليها لقب “سفيرتنا إلى النجوم”.
الثمانينيات والتسعينيات: ماجدة الرومي.. حب المثقفين والوطن
انخرطت المرأة العربية في الحياة الثقافية بشكل ملحوظ خلال هذه الفترة، لمع نجم الفنانة اللبنانية ماجدة الرومي، ابنة الموسيقار اللبناني الكبير حليم الرومي. لُقّبت ماجدة الرومي بـ ”مطربة المثقفين“ لما ارتبطت به أغانيها من اختيارات أدبية راقية، وحس مرهف، كيف لا وهي خريجة كلية الأدب العربي من الجامعة اللبنانية في بيروت.
حرصت ماجدة الرومي منذ بداياتها على الالتزام بخط غنائي انتقائي، وحرصت على التمعن في اختيار الكلمات والألحان. غنت بصوت المرأة المؤمنة عدداً من التراتيل مثل ”ميلادك” و”طوبى للساعين إلى السلام”، وغنت عن حب الوطن والأمل بمستقبله في “شعبك واقف بالريح”، وغنت لبيروت في “ست الدنيا”.
وفي الحب، غنت ماجدة بصوت العاشقة المحافظة، القلقة من ألسنة الناس وثرثرتهم في “عم يسألوني عليك الناس”، لكنها لم تكتفِ بذلك، فقدمت المرأة التي سئمت الحب فبحث عن الرجل في قصيدة الشاعرة سعاد الصباح “كن صديقي”، وغنّت بلسان الواقعة في غرام الرجل حلو اللسان، قليل الفعل في ”كلمات“، وقدّمت المرأة في المقهى على لسان نزار قباني “مع جريدة”.
ولعله من العجيب ـ والثوريّ ربما ـ أن تتخطى الرومي قضايا الأغاني المكررة إلى الغناء عن علاقتها بأرواح أخرى، كالحيوانات مثلاً، فغنّت للسمكة الذهبية في حوض منزلها أغنية “الأكواريوم”، ولقطّتها سيسي في “عندي بيسي“، دون أن يؤثر ذلك في رقي خطها الفني وخصوصية أغنياتها.
2000 وما بعدها: إليسا.. عن لوعة العشق ومرارة الحب
رغم تعدد مغنيات هذه الحقبة، وقع الاختيار على إليسا لسببين، الأول أنها لا تزال نجمة صف أول وفي أوج عطائها الفني حتى الآن، والثاني أنها تشبه مغنيات الحقب السالفة في انتقائيتها لكلمات وألحان أغنياتها، وحرصها على صناعة أغنيات تستحق الاستماع بشكل مستمر، ما يعكس شكلاً من أشكال الالتزام بخطها الفني.
أطلقت إليسا ألبومين قبل ألبوم “عايشالك” الذي وضعها على خريطة الغناء بوضوح، وبعيداً عن الصورة الخارجية، لو نظرنا بتمعن إلى الصورة الداخلية التي تمثلها إليسا عن المرأة في كلمات أغنياتها، لوجدنا حضوراً طاغياً للمرأة العاشقة بشتى أنوائها وتقلباتها في الحب. فهي العاشقة المتفانية في “عايشالك” والغارقة في الحب في “أجمل إحساس” والمعاتبة في “ارجع للشوق” والحزينة في “حبك وجع”، وتلك التي بدأت تكتشف عاطفتها في “جوايا ليك”، والمخذولة من غدر الرجال في “فاتت سنين“.
قدمت إليسا عدداً كبيراً من الأغنيات، حضرت فيها المرأة العاشقة بقوة، ربما على حساب قضايا أخرى، كان يمكن لصوت بمساحة صوت إليسا تقديمها للجمهور.
مع بضعة استثناءات هنا وهناك، فهناك أغنية “يا مرايتي” التي كانت تغني فيها بصوت المرأة التي تشعر بضياع العمر وتعاقب السنين وتغير أحوالها وأفول جمالها. كما قدمت “إلى كل اللي بيحبوني” بصوت التي عاشت تجربة المرض واشتاقت للأحبة في الراحة والرخاء، حيث تحدثت عن تجربتها الشخصية باعتبارها ناجية من مرض السرطان الذي تعالجت منه سراً، ليعرف الناس قصتها بعد صدور الأغنية.