«إنّها شعلةٌ تتصاعد،
وطيرٌ يُحلّق في الليل المتّقد بنجم الظلام
تبحثُ في العتمة عن صِلاء القبل
يا له من حبّ سيءٍ يعلو شفتيها
يا لها من جحيمٍ تلك السماء [1]»
بصوت ليلى داونز الساحر الحزين تَعْبر المخرجة جوليا تيمور من نافذة عينيّ فريدا المُمدّدة على سريرها، لتعود بنا إلى الماضي، إلى فريدا ما قبل الألم، التي كانت تركض في أروقة مدرستها كما لو أنّها أرادت القول إنّه ذات مرّة، كان لتلك المرأة التّعيسة حياةٌ كسائر الفتيات، مخالفةً للصورة التي طُبعت في أذهان أجيال عنها، كسحابة أسىً متنقلة، مرّة ضحيّة للقدر وأخرى للحُب، لتعرّفنا على منشأ المرأة الجبّارة التي خدعت الموت وروّضت الألم وآمنت بالحُب المُطلق نجاةً من اليأس.
فريدا كاهلو المولودة في السادس من يوليو عام 1907، هي الابنة الثالثة من بين ستّ بنات، ومولودٍ ذكر وحيد فارقَ الحياة بعد ولادته بأيام، للمصور المكسيكي ذو الأصول الألمانية غيجيرمو كاهلو والمكسيكية ماتيلدا كالديرون، أقامت العائلة منذ 1904 في المنزل الأزرق في شارع لندن، المنزل الأشهر في المكسيك، والذي تحوّل في الوقت الحالي إلى متحف لأعمال فريدا. كانت تطمح لدراسة الطب، وخلال المرحلة الإعدادية انتسبت إلى حركة طلابيّة سياسّية أطلق عليها لاس كاتشوتشاس (ذوات القُبعات) تنتقد السلطة وتدعو لإصلاح نظام التعليم. وفي سنة 1925 تعرضت لحادثٍ خطيرٍ أثناء عودتها من المدرسة، إثر اصطدام الترام بحافلة المدرسة التي كانت تقلّها. حادث غيّر حياتها إلى الأبد.
الحادثة التي أطلقت موهبتها
لم تكن فريدا مُهتمّة بالرسم قبل الحادثة، ولم تمارسه إلا بعد رقادٍ طويلٍ في سرير المرض عقب خضوعها لعددٍ كبير من العمليات الجراحية، كابدت خلالها بجسدٍ محطّم، وقاومت بأملٍ لا ينضب، كل التوقعات التي جزمت بإعاقتها مدى الحياة. وبدأت “برسم حقيقتها”.
من أقسى مشاهد الفيلم ذاك الذي تظهر فيه فريدا معلّقةً مثل ماريونيت من جميع الأطراف بما في ذلك الرأس، ليتمكن الطبيب من فك الجبس الذي غلّف جسدها ودموعها تنهمر بلا توقّف مسلوبة الإرادة تماماً، في قاع القاع من كلّ شي. ولعلها، لهذا السبب بالذات، نجحت بتخطي محنتها، فالأمل لا يسكن إلا تلك القيعان المظلمة ولا يهتدي به إلا من آمن باستحالة مكوثه فيها.
بعد أن تعافت فريدا عقب رحلة علاج طويلة واستطاعت المشي أخيراً، قررت الذهاب لزيارة دييغو ريفيرا في مرسمه للمرة الأولى، لتطلب رأيه في إحدى لوحاتها، ورغبةً منها في التأكد من أن فنها جديرٌ بأن يراه الناس ويعترف به الوسط الأدبي، ساعية لرأي نقديّ لا لمديح، لذلك لم تصدّق دييغو عندما أبدى إعجابه بلوحاتها، لكن جواب دييغو جاء واضحاً “في بعض الأحيان عليكِ أن تثقي بمديح صادق أكثر من ثقتك برأي نقديّ”.
شيئاً فشيئاً عادت فريدا إلى الحياة من موتٍ محتّم، وفرشت حزنها ألواناً بلا حدود حتى أصبحت ظاهرةً فنيّة بحدّ ذاتها لا يمكن أن تتكرّر. إلى هذا الحدّ يعيد الألم تشكيلنا، إلى هذا الحد يكسر كل القوانين، وألم فريدا كان أعظم من أيّ شيء آخر، فسامحت بلا حدود وحاولت مراراً إصلاح المرآة بدلاً من تحطيمها في علاقتها مع دييغو ريفيرا الذي صار حبيبها ومن ثم زوجها، والذي منحته محيطاً من الحرية لا يمنحه سوى محبٍ عظيم، لكنه مع ذلك قطع الشّعرة الأخيرة في صبرها بخيانته لها مع أختها، وكان هذا سبباً كافياً لتبتعد وتهجره. فالحُب غير المشروط هو أيضاً غير خاضعٍ لأي قوانين، فمرةً هو الصداقة ومرّة هو الكره وأخرى يكون ببساطة اللاحب. وكان دييغو يعي ذلك ويستخدمه.
ولأن حياة «فريدوشكا» كانت تنصبّ في لوحاتها، تعرض لنا المخرجة قصة عدد منها، من بينها الصورة العائلية التي تظهر فيها فريدا بثيابٍ وقصة شعرٍ ذكورية، في إشارة منها للدعم الذي حظيت به من طرف والدها وعلاقتهما القوية على مدار حياتها. كان ذلك التلميح الأول حول ميول فريدا الجنسيّة والذي ظهر لاحقاً في مشاهد أكثر وضوحاً عكست أنوثة طاغية من ناحية وذكوريّة متفهمة من ناحية أخرى لفريدا العاشقة. كما نرى بورتريه شخصيّاً تظهر فيه وقد قصّت شعرها إثر انفصالها عن دييغو للمرة الأولى، وكأنها تُعلن تمرّدها الكامل على أنوثتها ألماَ على خيانته لها مع شقيقتها.
الزوج – الشريك – الوطن
يُركّز الفيلم على أبرز المحطات في حياة الشريكين بداية من زواجهما سنة 1929 والذي تمّ رغم معارضةٍ شديدة من والدة فريدا، وكذلك زيارتهما إلى نيويورك في سنة 1931 وإقامتهما فيها التي امتدت لثلاث سنوات، والحظوة التي نالاها في الأوساط الثقافية الأميركية، وحادثة الإجهاض الثانية التي عانتها فريدا خلال هذه الفترة والتي ظهرت في لوحتها الشهيرة (مستشفى هنري فرويد).
كما نجد إعادة لإنشاء مشهد تكرّر في أفلام سابقة مثل الفيلم الأميركي Gradle will Rock، إنتاج عام 1999، الذي تناول أكثر الأحداث أهميّة في حياة دييغو وهو الجداريّة التي كُلّف برسمها في نيويورك بين عامي 1931و1934 من قبل أحد كبار المستثمرين الصناعيين، في ردهة مبنى آر سي، المبنى الرئيس في الجادّة الخامسة في المدينة والذي يُصنّف واحداً من أهم رموز الرأسمالية آنذاك. دييغو الكومونيستا (الشيوعي) رسم ضمّن الجدارية بورتريه لفلاديمير لينين زعيم الثورة البلشفيّة، مما أثار غضباً عاماً واعتبر آنذاك إهانة للرأسمالية في عُقر دارها، وطُولب بإزالتها. لكنه رفض، فألغت الشركة تعاقدها معه وأزيلت الجدارية بالكامل. ليعود دييغو وفريدا مجدداً إلى المكسيك.
أما المحطة الأخيرة التي يصورها الفيلم، والأكثر جدليّة، فهي لجوء ليون تروتسكي زعيم الجيش الأحمر، المُلاحق من قبل ستالين، مع زوجته إلى المكسيك، وإقامتهما في منزل والد فريدا، والعلاقة الحميمية التي جمعته بهذه الأخيرة والتي كانت سبباً في مغادرته بعد انكشاف أمر تلك العلاقة. وعلى إثر ذلك يغادر دييغو إلى كاليفورنيا وينفصلان، ولكنه ما يلبث أن يعود بعد علمه بحادثة اغتيال تروتسكي وسجن فريدا نتيجة لذلك. ويتقدّم إليها بعرض الزواج مرّة أخرى، وهنا يظهر عمق الحب الذي جمع الاثنين، بتأكيده على أنَّ حبهما كان قادراً على غفران أيّ شيءٍ إلا الفراق، وعودة دييغو هذه المرّة لم تكن لتلك الشّابة المُتحدّية الشقيّة، بل كانت عودة غريبٍ لوطنه، ومبتدئ لمنتهاه، عاد إليها في أشدّ لحظاتها حاجةً إليه، عندما سلبوها حريتها، هكذا يكون الحبيب جناحاً للمحبوب لمّا ينكسر، ولو كان في آخر العالم.
صناعة الدهشة الأخيرة
قبل وفاتها بأشهر عدّة، في ربيع عام 1953، كانت حالة فريدا الصحيّة في تدهورٍ مستمر، واضطر الأطباء لبتر أصابع قدمها ومُنعت من مغادرة السرير، ولكنها مع ذلك فاجأت الجميع بحضورها افتتاح آخر معارضها محمولةً على سريرها، وكان ذلك أول معرض بهذا الحجم لرسوماتها في صالة عرض مكسيكو سيتي للفن المعاصر في المكسيك، فتحلق حولها أصدقاؤها وشربوا نخبها الأخير. ولعل هذا المشهد الأخير من الفيلم، يعكس صفات هذه المرأة الاستثنائية، كما تقول الكاتبة هيرّيرا [2]، التي تتمثل في “كياستها البالغة وفرحها الشديد بوجه المعاناة الجسدية، إصرارها على الإدهاش والخصوصية، وحبها الفريد للمشهد اللافت باعتباره قناعاً كي تحافظ على خصوصيتها وكرامتها الشخصية، والتي أنتجت خلال مسيرتها الفنية الموجزة نحو 200 لوحة فنية، كانت معظمها بورتريهات ذاتيّة”.
وينتهي الفيلم عندما يرفع دييغو نخب فريدا في اللقطة الأخيرة، مردّداً مقولةً للشاعر والناقد البريطاني لويس سميث ”لم يسبق لامرأةٍ أن نظمت مثل هذا الشعر المُعذّب على الكانفاس“ وتختم المطربة ليلى داونز بأغنية لاجورونا أو (البكّاءة) التي تبكي أولادها عندما ينام البشر:
”أتمنى أن يكون الخلاص ممتعاً، وأتمنى ألا أعود أبداً“.
…………..
الفيلم بعنوان فريـدا، من بطولة سلمى حايك وألفريد مولينا وإخراج المخرجة الأميركية جوليا تيمور (2002). مأخوذ عن كتاب السيرة الذاتية ” فريدا” للكاتبة الأميركية هايدين هيرّيرا.
[1] ـ من أغنية الحُلم والبركة Benediction And Dream، للمغنّية المكسيكيّة ليلى داونز Lila Downs .
[2] ـ من كتاب (فريدا) للكاتبة هايدين هيرّيرا ترجمة علي عبد الأمير صالح. الصفحة 23.