للمدن تأثيرها الساحر على روح الشعراء والفنانين والكُتاب، إنها ملاذ الحالمين وسيدة خيالنا الموحش فبالرغم من كل تلك المشاهد العبثية التي يجسدها ازدحام البشر في مطارات العالم، وكل تلك الصور التقليدية التي يشكلها البعض عن السفر والمدن إلا أن للسفر والترحال بعدٌ شاعري وفلسفي أكثر رقة وعمقاً، يكفي أن تقوم بجولة من الأحاديث بين أصدقائك ومعارفك المحبين للسفر والمدن وستغرق معهم في حكايات ألف ليلة وليلة.
ومن هذا المنطلق أرسلت عشر رسائل صوتية إلى أصدقائي المغرمين بالسفر تحتوي على سؤال واحد “ماذا يعني لك السفر ؟!“ مع وضع ملاحظة: أن يتكلموا على سجيتهم كما لو كانوا يكتبون مشاعرهم الخاصة تجاه أحب الأشياء إليهم.
كانت فكرة لحظية لم أتوقع أن أحصل من خلالها على أحاديث مشوقة ورائعة إلى هذا الحد، فبعد عدة ساعات تدفقت الإجابات في مقاطع صوتية تجاوز بعضها النصف ساعة كانت أمسية من التمجيد والتأمل والتمنى والحلم، لم تكن تلك التجربة مجرد حوار عابر بل استكشافاً جديداً تجاه ما يحمله أصدقائي من قدرات لغوية، وثقافية واسعة، وخيال مثير تجاه وصف حالة الاستعداد للسفر إلى المدن الجميلة التي زاروها مسبقاً، أو تلك المدن التي تشبههم ويحلمون بالعيش فيها أو زيارتها ذات يوم.
الإنسان يشبه مايحب
عندما يغرم البشر بمدينة ما سيصبحون شعراء مفتونين قادرين على وصف مدنهم المفضلة بأكثر العبارات جمالاً، مثلما كان الاستماع إلى حديث صديقتي غادة التي تعشق مدينة نيويورك الأميركية، تلك المدينة العمالقة المتنوعة تعني لها روح البشرية. تقول إنها تعشق كل مافي تلك المدينة من أبنية شاهقة تتصف بالجمال المعماري المدهش، وتعشق رؤية تايمز سكوير الحافل بالبشر والشاشات الملونة، وتناثُرَ الفنون في أرجاء شوارعها. تسحرها قطارات الأنفاق المتسارعة، وركض آلاف البشر من أعراق مختلفة تقول في نيويورك يصبح للعين مصدر إلهام، وللعقل مدارك أوسع من خلال التعامل مع تلك الثقافات المتناثرة. في شوارع نيويورك ستشاهد ببساطة العرب، وشعب المكسيك وأميركا اللاتينية، وأبناء العم سام، وجميع الأعراق في بقعة واحدة. ستبهرك طريقة حديثهم وملابسهم المختلفة دون أي شعور بالاختلاف. وحدها مدينة نيويورك تجسد كل ذلك الاندماج البشري في أبهى صوره وكأنها تلك اللوحات الفنية العمالقة التي تجمع شخصيات عدة في إحدى متاحفها. وحدها مدينة نيويورك التي تجسد مسرحاً حراً لكل أنواع الفنون، ففي شوارعها من السهل جداً أن تجد شريكاً لرقص التانغو، الفلامنكو، الهيب هوب، وغيرها من الرقصات والفنون. إنها المدينة الاكثر سحراً، وكأنك أليس في بلاد العجائب .
التحضير لتحقيق الحلم
المفاجأة الأجمل في تلك الرسالة الصوتية عندما أخبرتني صديقتي أنها فستاناً وحذاء أنثوياً ساحراً كي ترتديه لرقصة التانغو، واشترت أيضاً ملابس شتوية أنيقة تليق بشتاء نيويورك الأكثر قساوة وحيوية.
الغريب في الأمر أن صديقتي تجهل متى ستزور تلك المدينة تجهل التاريخ والوقت لكنها جهّزت كل الأشياء التي ستشعر من خلالها أنها في مدينة أحلامها، فهي لا تريد أن ترقص التانغو في إحدى مدن الأرجنتين الزاخرة بحانات التانغو، بل تريد أن ترقص في شوارع نيويورك الشاسعة. لا تريد الأمكنة الخاصة، بل الهواء الطلق. ترى صديقتي أن الأشياء التي نخلقها في خيالاتنا يجب أن نحققها كما هي، لا كما يجب .
اقتفاء الأثر
أجمل الطرق هي تلك الطرق التي ترافقها روح الإلهام والشغف التي يسلكها البشر بحثاً عن متعة خاصة، نابعة من اهتماماتهم الخاصة بعالم الأدب أو الفن.
قبل عام شاهدت فيلم The Bridges of Madison ـ جسور مقاطعة ماديسون ـ للممثلة الرائعة ميريل ستريب وكلينت إييستوود، لم أكن يوماً من محبي المدن الأميركية الصاخبة، فأنا من عشاق الريف ومدن التاريخ والفن القديم، كمدن أميركا اللاتينية، والدول الإسكندنافية، لكن تأثير ذلك الفيلم بتفاصيل مشاهده الريفية البسيطة التي تحتوي على جسور خشبية مميزة التي تسكنها ذكريات العاشقين فرانشيسكا وروبرت، وحكاياتهم الحالمة جعلتني مهووسة بزيارتها ذات يوم، بهدف اقتفاء أثر تصوير ذلك الفيلم الخالد في ذاكرتي إلى الأبد. إنني أرغب في تدوين اسمي أو أخذ صورة تذكارية بجانب جسر ماديسون.
لم أكن وحدي بين أصدقائي من لديه هوس اقتفاء الأثر، بل أن أحد أصدقائي يحلم أن يعيش بقية عمره في قلب مدينة لشبونة البرتغالية. يحتسي القهوة كل صباح في مقهى برازيلي بجانب تمثال أديب البرتغال الأشهر، فرناندو بيسوا، ويتسكع مساءً بجانب قطارات الليل، ويستمع لموسيقى الفادو العريقة. لم يسترسل ذلك الصديق بشكل فلسفي وأدبي تجاه شغفه بل اكتفى بهذا القدر من الامنيات التي تكفي بالنسبة لي لفهم معنى السفر بالنسبة إليه، إنه الشغف تجاه شخصيته الأحب، بيسوا.