عبء القمة: حكاية المجد المُرهق

في سباق لا ينتهي نحو القمة، باتَ بلوغ المركزُ الأولُ في مجتمعاتنا ليس مجرد إنجاز، بل معبوداً تُقدَّم له التضحيات، حتى لو كانت أرواحاً تُجهدُ وتسيرُ في دروبٍ ليست دروبها، فقط لتحصد الأولوية ولو على حساب ذاتها.
لقد أصبحت الفكرة مرهقة جداً.. من منا لا يحب أن يكون المتصدر، فيما يحب ويشقى أن يرى جهده وعرق جبينه يروى على سطور النجاح وسلم الأوائل، لكن الأمر أخذ مساراً آخر، فقد أصبح أزمة فكرية واجتماعية تتغلغل في ثقافتنا الحديثة، بل وأصبح المقياس الوحيد للنجاح.

عبء لا وسام

نعم، لا تحتفل مجتمعاتنا أحياناً بجودة الفكرة، أو عمق التجربة، أو حتى جدوى المشروع، بل تحتفل فقط بـ “الريادة”، لمجرد كونك أول من فعل.
تحولت الفكرة من مصدر إلهام إلى عبء نفسي، تُلاحقك كما لو كانت الشرط الوحيد للجدارة، وكأنك إن لم تكن في الأولوية، فأنت مجرد تكرار باهت، أو صوت في الزحام. أنت مجرد هامش لا يرى ولا يسمع ولا يترك أثراً بأي شكل من الأشكال.

هدف مكلف جداً

لنفكر فيها قليلاً، كم من مبدع تم تجاهله لأنه لم يكن أول من وصل؟ وكم من شخصٍ ارتكب أخطاء فادحة، في محاولة أن يبتكر شيئاً لمجرد أنه لم يُفعل من قبل، شيء لا يحبه أبداً، أو يفهمه، أو حتى يؤمن به، بل لأن في نهاية الطريق سيجعل نفسه المتقدم في مجاله، حتى وإن كان لا يفقه فيه شيء.

هل يجب أن يكون صانع التاريخ؟

هل تتذكّر دائماً أول من اخترع شيئاً؟ أم أول من أتقنه؟ أم من جعله مفيداً، وحيّاً، وقريباً من الناس؟ لا يعيش الناس على الأوائل وحدهم، بل على من أعطى القيمة والمعنى لما فعله، سواء كان أول من وصل أو المائة.
نعم.. أنت الأول، لكن أين أنت الآن؟ هل أنت الأفضل في ما تقدم وتعطي؟

الصدق مع النفس أولاً

أن تعمل في ما تُحب، لا في ما لم يفعله أحد بعد.. أن تصنع ما يُشبهك، لا ما سيمنحك اللقب، أنت لست مطالباً بأن تكون ”أولاً“.. أنت مطالب بأن تكون حقيقياً، نافعاً، وحيّاً في ما تصنع.
قد تكون الشخص الألف، لكنك الأكثر تأثيراً.
وقد لا تُذكر في قائمة الأوائل، لكنّك ستكون في قلوب من لمسهم كل ما فعلت.
تذكر بأنك لا تبحث عن الأسبقية، أنت تبحث عن الحقيقة، عن الكلمة التي تشبهك، عن الفكرة التي تسكنك وعن الأثر الذي لا يمحى، حتى لو كنت الأخير بين السائرين.

spot_imgspot_img