على قلقٍ كأن الرّيح..

قد يبدو الحديث عن مواقع التواصل الاجتماعيّ والتطبيقات وتأثيرها البالغ على نفسيّاتنا أمراً مُستهلكاً ــ وهو فعلاً كذلك ــ لكن تبقى دائماً هُناك حاجة مُلحّة للكتابةِ عنه بشكل كثيف كنوعٍ من التذكير.

لطالما شعرتُ بغيابِ المعنى وأنا أتصفّحُ التطبيقات لساعات بلا غايةٍ محدّدة، فقط إرضاء لحاجة الفضولِ فيّ تجاه المحتوى الذي أخاف أن أفوّته، والذي لم يكُن يفيدني بشكل ملموس بقدرِ ما كان يعزّز شعوري بالتيه ويُبعدني ـ بإدراكٍ منّي ـ عن معالم هويّتي الحقيقيّة، هويّتي التي دائما ما أرّقتني تساؤلاتي حولها، والأشياء التي تُعرّفني فعلا وتشبهني.

مُقارنات دائمة وقلقُ غياب المعنى

نقضي وقتاً نخجلُ من الإفصاح عنه في التصفّح العشوائيّ الذي لا يرضي نفساً ولا معرفة، ساعات طويلة، وإن كانت غير متواصلة، في مقارنات لا حدّ لها، وما هو أعجب ممّا ذكِر، هو غياب الغايات وتعدّد الاهتمامات، نرى أفكاراً ومحتوى لا حصر له، فنفكّر أن نفعلَ ذاتَ الشّيء. مشتّتين بين كل تجربة وفكرة، نُريدُ ولا نفعل، ممّا يضيّع علينا الطريق ويشوّش وجهة بوصلتنا. إن كل هذا وأكثر، يمنعنا من الاستمتاع بما كنّا نحبّ ممارسته فعلا، من هوايات وتجارب تاهت في غياهب النسيان.

وأنا أكتبُ الآن، أمسكُ هاتفي بلا غاية فعلا، بلا وعي، وهو ما يزعجني في الأمر كله، أن أفقد سيطرتي على وعيي ووقتي. والغريب أكثر أننا نشتكي من قلة الوقت إذا ما هممنا بتعلّم مهارة ما، مهارة ظلت مجرّد رغبة تآكلت، جرّاء كثافة ما نتلقّاه، وماذا كانت الشّماعة؟ قلة الوقت الذي نُضيّعه بأنفسنا على أنفسنا.

في عالم رقميّ فضفاض كهذا، يُصبح المعنى ضبابيّا غير واضح، ما يجعلني أدورُ في حلقة مُفرغة، وأتساءل بلا توقّف عن جدوى أيامي وعن المعنى فيما أفعله وأفكّر فيه. في أيامٍ كثيرة كنتُ أستيقظ وأنا أفكّر، ما الذي أفعله؟ وما كلّ هذا الضياع الذي أنا فيه؟ ولمَ كلّ هذا القلق تجاه الإنتاجيّة والهوس بالعمل والانشغال الدّائم. وكثيراً ما كنتُ أؤنّب نفسي إذا ما قرّرتُ الاستمتاع بيومي بدون إنجاز شيء ما، أيّامٍ كانت أشبه بعبارة المُتنبّي، التي تُمثّل هذا الجنون الذي نعيشه، ”على قلقٍ كأن الرّيح تحتي”، أفكّر بهوسٍ دائم غير منقطع، عن الإنجاز، عن المعنى، عن الجدوى والغاية، عن أشياء تلوّنت بالسطحيّة وفقدت جوهرها في عالمٍ متشابه ومُكرّرٍ إلى حدّ الزّيف.

تعدّد الاهتمامات ليس مشكلة في حدّ ذاتها

إن الفكرة التي أحاول صياغتها وإيصالها لا تكمن في أن نحُدّ أنفسنا في مجالٍ واحد أو أن نبقى في نفس الدائرة نُكرّر أيامنا، بل الفكرة أن نُحدّد المسار حتى لا نتوه، لأن التعرّض لهذا الكمّ الفائض من المحتوى المتنوّع يمنعنا من التركيز والتحكّم في خياراتنا حتى في أصغر التفاصيل، كاختيار طريقة اللبس مثلا. إنّ كل هذا يلهينا حتى عن إنهاء مهامنا الأساسيّة كالعمل والدراسة، ويُبقينا في دوّامة لا نهائية من المشتّتات والتساؤل حول ما إذا كانت تُناسبنا فعلا أم لا؟

لا أنتقدُ تعدّد الاهتمامات، فأنا نفسي أحبّ تجربة الكثير من الأشياء والتعلّم الدّائم، فتعدّدها ما هو إلّا أمر إنسانيّ وفطريّ فينا، خاصة في الفضوليّين، ولكنّ إسهابنا وانجرافنا فيها وفي كلّ ما نرى، يضيّع علينا الطريق، فنفقد حتى الاتجاه الأساسيّ الذي بدأنا، ونأمل، أن ننتهي بالوصول إليه. فالفكرة أن نُحاول التحكّم في بوصلتنا ونحن، فقط نحن، نحدّد معالم طريقنا وغاياتنا بدون تشويش وفوضى لا معنى فيها.

غائب عن المشهد

أجزم أن كلّ فرد منا قد حاول أخذ استراحة من المواقع والتطبيقات، ومن الضغط الكثيف الذي نواجهه يوميّا من التصفّح اللاواعي، لكنّ شعوراً ما بأن شيئا ما يفوتني كان يمنع من أخذ هذه الخطوة، ”شيئاً ما“ ليس واضحاً أبدا كان يُقنعنا بأننا غائبون عن المشهد، بعيدون كلّ البعد عن الحياة إذا ما قرّرنا الابتعاد عن العالم الافتراضيّ، ذاك العالم الذي سرقنا منّا وسرق منّا أشياء كُنّا في وقت مضى، قد يكونُ ليس ببعيد، نراها العالم بأكمله، انتشل منّا حميميّة الوقت مع العائلة، عبثيّة حديث الأصدقاء، النوم باكراً والاستيقاظ بشغف، فأصبحنا نشعُر بأنها مضيعةٌ للوقت!

ما يحيّرني فعلا، هو أننا سابقا، أي قبل ثورة الانترنت وجنونها، كُنا نهرب إليها من الواقع، لنكتشف هذا العالم الجديد المُدهش، أما الآن، فإننا نهرب إلى واقعنا، عودةً إليه، من الضغط المُضني الذي يستنزف طاقاتنا وقدراتنا التي لا حدّ لها. ما آملهُ، هو أن أعود إلى نفسي، وأكون أنا سيّدة قراراتي وخياراتي، بعيداً عن كل ما يُبعدني عنها.

spot_imgspot_img