أمنياتٌ … لمرّةٍ واحدة

“ليتَ شعري هل درَوا أيّ قلبٍ ملكوا”.
ابن عربي

مشينا معاً درباً مُستحدَثاً في الغابة، تركنا بين أيدينا مسافةً كما بين قطبين نقيضَين. مسافة نستخدمُها للإشارة إلى السّناجب حين نتحدّثُ عن الذّوات الشّاردة الهائمة في ملاذاتِها التي تكتشفُها كلّ أوّل عامٍ للمرّة الأولى منذ آلاف السّنين ولا وطن يحويها، وإلى الأعلى إذا اختلفنا حول مكان الله في حياة البشر وما جدوى الاستدلال عليه من مفتاحٍ علّقناه على باب بيتٍ لن يدخله أيٌ منّا إلا خلسةً عبر نوافذ التّجربة، وإلى قلبَينا إذا نازعتْنا الرّعونةُ جنوحَنا نحو الحرّيّة.

أخبرتَني ألا أعداءَ لك، لأنّكَ وُلدتَ مرّةً واحدةً طمرتَ فيها لؤمَ العالمين بشاعريّةٍ نسيت غضبكَ في جيوبهم، وهم ينفضّون عن موسيقاك التي تصلُ البسمةَ بالبسمة. أمّا أنا، التي أفيضُ صمتاً بعد ثرثرة، وشروداً طويلاً بعد التحديق بعينيك، فأحيطك علماً بأنّ الليلَ الذي يلدني مع كلّ كلمتِك مرّةً، لم يصبح عدوّي، لكنّه، لم يعد صديقي. قبيلةٌ من اثني عشر رقماً هي الآن أكبر أعدائي، إلى أن تتوقف عن الإيمانِ بزمنٍ لا يفي بأرقه، ولا يؤلف ما بين شهيقك وزفيري.

**
الصّحراءُ التي تحتشمُ بثوبِ البحرِ
تكذّبُ أسطورةَ الغرقِ
وتمنحُ البحرَ ميزةَ أن يكون امرأةً
مرّةً واحدةً.
**

ظمأٌ على جليدٍ من وجع… لسريرةُ العاصفةِ أقربُ إلى روحي من بياضِ الثّلجِ. لماذا، وكلُّ هذه العناكبِ من حولي أشعرُ بالخوفِ من اللّاشيء؟ لماذا وكلُّ هذه النّارِ في صدري أرتجفُ من الصّقيعِ؟

أقول لهذا الإلحاح في نفسي:” إنّها النّهاية الّتي ستلتهمُ كلّ البداياتِ وكلّ النّهايات”، فتجيبُني نفسي:” لو كان كذلك، لحطّتِ الفصولُ رحالَها”.

احفظ عنّي: كلّ محّارةٍ احتفظت بلؤلؤتها كانت كاذبة. شفافيّةُ الماءِ خدعةٌ للنّور لا يكتشفها إلا لحظةَ اجتيازها.
وسأحفظُ عنكَ ما توحي ألوانُ الطّيفِ لمريدِها.

هكذا بدون مقدّماتٍ
ستنتهي بظهورِ قوسِ المطر
على وجنتينا
كلّ التّوقّعاتِ
وكلّ الاحتمالات.

**

عندما ابتسمتُ لك قالوا عن بسمتي إنّها دافئة. عندما وقفت أمام النّافذةِ أراقبُنا في المطرِ، لا يعكّرُ خلوتي إلّا الماء تصفرُ في إبريقِ الشّايِ، قالوا عن نظرتي أنّها عاشقة. لمّا دفعتني إلى المرآةِ تستوقفُ استعجاليَ الرّحيلَ رأيتُ فيها امرأةً جميلةً … لا تشبهني، لكنّها جميلةٌ كما قلتَ.

لعلّك لم تنتبه يوم سرقتَني من هذا الخرابِ الذي كنتُ بدأتُ آلفُهُ إلّا غرفة، واحتضنتني في قلبِك كلّ هذه المدّة أنّني صرتُ دائريّةً كالأرضِ .. لا جدوى من أن تنفضَ عنّي الغبارَ وتعيدني كلّ مرّةٍ إلى حيثُ أنتمي، لأنّي سأسقطُ أتبعُك متدحرجةً أنّى اتّجهتَ.

ليت المرايا تنظرُ إلينا
ولا ننظرُ إليها
ليت الماءَ لا يقشّرُنا عن أسمائِنا
بكلّ ما أوتيَ من نقاء!

**

مَن سمّاكَ سيّدَ الطّبيعة؟ عندما تغيبُ تتسلّلُ الألوانُ من الفضاءِ فيغدو أكثر شفافيةً من الماء. عندما تحضر، أستعيرُ من عينيكَ ألواناً تسكنُني، تنحدرُ منها ألوانٌ يستحقّها العالم، تأكلُ فصول سِنيه وتشربُها. عندما تتلو قصيدتك سرّيّة المنحنيات، أصيرُ كطفلٍ يتعلّم الرّسمَ حديثاً، أخطئ وأتعمّد الخطأ؛ ألوّنُ السّماء بالأخضر والأرضَ بالبنفسجيّ. أطلو الأشجارَ بالبرتقاليّ والصّخور بالورديّ. أعطي للقمر لون النّجوم وللنّجوم بريقَ اسمك. وعندما تكلّ يداي، أستديرُ نحوك، فإذا بابتسامتك الهادئة تعيدُ الكون سيرتَه الأولى، وتلف أناملي شهقاتٌ يسلكها القلبُ، لا تؤدّي إلّا إليك.

هذان، نحن،
نقطتان في أوّل السّطرِ
ونقطةً في أخره،
وما بينهما أمنياتٌ تجفّ
لعلّ اللّيلَ ينام باكراً.. وننام.

spot_imgspot_img