تلك الرسالة لم تكن مجرد كلمات عابرة، كنتُ أشعر أن في طيّاتها وعداً أو سراً عظيماً، كل ليلة كنتُ أعود إليها، أحملق في مرآة الروح، أتلمس حروفها بأصابع مرتعشة في رحلة مستميتة لسبر أغوار جلد الحقيقة، كان نصها مبهماً ووقع موسيقاها ثقيلا على القلب:
“الفائز ليس الحائز، سنزيدك من العلم والنور، واسمك مذكور” وأتساءل: إن لم يكن الحائز هو الفائز، فمن هو الفائز إذاً؟ وأيّ فوز تقصد الرسالة؟
هناك، حيث يحلق خيالها بلا قيود، في مصنع أفكارها المعلّقة في الهواء، وترفرف الأرواح بين عوالم الظاهر والباطن، تشبثت “ثريا” بفكرة انبثقت من باطن وجدانها، كأن قدميها تبحثان عن يقين في جوف الشك، فأطبقت على الفكرة، راحت تتأملها ملياً، تطمئن إلى وجودها، ثم أسرعت إلى العمل، حتى إذا انفتح لها باب الفهم، أسرعت إلى الخلاص.
غاصت في وصفات متناثرة بين أوراق مكدسة، فهي تريد تمام الكمال وصفاء الرؤية، احتضنت المكونات بخشوع، وشرعت في صناعة ما ينقذ روحها من صخب العالم وفوضاه، كانت النتيجة “برطمان مخلل” يهذب مرارتها في حلق الروح.
في الصباحات الهادئة، كانت تتسحب، ثريّا، على أطراف أصابعها لتبدأ يومها بحجّ صغير من عتبة بيتها العربي الطراز إلى مطبخها الواقع في نهاية الفناء، هذا المطبخ رغم بساطته كان صومعتها الخاصة التي تجد فيها العزلة بعيداً عن ضجيج العالم. في الداخل لم يكن هناك ما يميز المكان عن سواه، طاولة خشبية مستطيلة في المنتصف، وأسطح رخامية تحتضن أركانه، وفرن عادي يصنع أطباقاً تصنع بحب لأفراد عائلتها. لكن في زاوية المطبخ، كان يكمن سرّها الذي تخبئه بعناية، بعيداً عن الأعين الفضولية، جرار نحاسية صفراء تخفي في داخلها حكايا من المخللات، تشكلها على مهل وأناة، وتعاين المقادير بدقة حتى تخلق تحفة فنية يكشف سرها اللسان.
في وقت قائظ، حين كانت الشمس تلسع أرضية الفناء بحرارتها طوال النهار، وبينما كانت ثريا تهمّ بالدخول إلى مطبخها، تعثرت بحجر ملقى أمام الباب. شعرت بألم حاد يخترق إصبع قدمها الكبير، فقفزت على قدم واحدة محاولة كتم صرختها حتى لا يثير الصوت قلق الجيران ـ بحكم مجاورة نوافذهم للمطبخ ـ انحنت ممسكة بالحجر لتزيحه، لكن ما لفت انتباهها لم يكن الحجر نفسه، بل ورقة ملفوفة عليه، بأصابع مترددة، فتحت ثريا الورقة بحذر، فإذا بها تحمل عبارة غامضة:
“الفائز ليس الحائز، وسنزيدك من العلم والنور، واسمك مذكور”.
توقفت أنفاسها، وسرت قشعريرة في جسدها، باتت الكلمات تتردد في ذهنها كأنها بيت شعر مجهول، وتزايدت دقات قلبها مثل الطبول، شبّت في جبينها سيول العرق، وما إن سكن الهاجس القلب ذبح، سرت بعينيها نحو السماء، تفتش عن إجابة بين النجوم، لكن السماء فجرت من أبوابها نهراً من الشكوك، وكأن الكون بأسره يتكاتف ضدها في لغز تلك الرسالة الغامضة.
“ثريا” تلك النفس التي اختارت العزلة عن قصد، تخبئ أوراقاً نازفة في سرداب مطبخها، حيث الكلمات تنسكب من روحها كأنها تسبيح صامت، تخاطب عوالم خفية لا يملك فيها الخيال جسداً، تذكرت صديقتها حصة، الصحافية مأمن سرها، صديقة تؤمن بأن الكتابة طقسٌ يطهّر الروح، فأفضت إليها بكل شيء عن دفاترها المخبوءة، حكت أول ما حكت عن تلك المرأة العابدة التي سكنت جسدها في دفاتر الذكرى، كانت العابدة رمزاً للعلم والنور، صاحبة ضفائر سوداء تتهدل على جذعها، وتحفها هالة من وقار في مجلس العلم بين مريديها، أحيت ثريا عبر كلماتها الوصفية طريقاً طويلاً كانت تتهادى العابدة فيه مع رجل لا ترى ملامح وجهه، وابنة تتأرجح بين يديهما في شوارع قرطبة، حيث أشجار الجوز مغروسة على جانبي الطريق وهي غارقة في الضحكات المسترسلة، والتائهة بين ضجيج الحوانيت، حكت عن تغير رياح الأقدار لتتكشف خيانة خادمتها التي هربت مع أقرب مريديها بعد أن سرقت كتابها، فنزلت بهما لعنة النكران، حيث كتب عليهما الولادة من جديد في أزمان مغايرة مع ذاكرة معطوبة وثقب في القلب وحنين لأثر مفقود، إذ كتب عليهما التيه.
امتلأت أوراقها بصراعها مع الكائنات الخفية، تخلقهم على الورق لتبارزهم، فتنتصر في معركة الروح، كتبت عن ولادة جسدها مرات ومرات مختلفة بذاكرة واحدة، وروح واحدة، كانت عنزة حرّة ثم تحولت حجراً يكتب عليه الفقهاء في المساجد فتشربت مسامها الكلمات، رأت نفسها تتكلم الأسبانية في زمن آخر، وكانت درويشة مرة أخرى تهيم على وجهها في الصحراء، وعرّافة تضرب الودع لتكشف المستور.
عندما اكتظت الأوراق وضاق بها مطبخها سمحت لحصة بالاطلاع عليها، فحمقلت أمينة سرّها في كتابتها وشهقت:
“ثريا، قلمك لو حاول أعتى الكتبة اللحاق به لأصابهم اللهاث ولن يصلوا إليك، الساحة ملأى بغثاء السيل ويتباهون، أما أنت تكتبين بنور الروح، وبما لا يبلغه ويراه غيرك، اقتحمي هذا العالم فإنه لكِ!“.
ضحكت ثريا بعصبية وقالت بنزق، ما أكتبه عادي وبسيط ولا يستحق كل هذا التهليل.
ردت صديقتها قائلة: ليت هناك حيلة لأجعل الكتابة سبيلك.
بعد هذه المحادثة رأت ثريا إعلاناً من دار نشر حديثة فتحت أبوابها أمام الكتاب الجدد لتساعدهم على نشر أعمالهم وإطلاق أسمائهم في فضاء الكلمات، لم تتردد صففت أوراقها، وأرسلت المخطوطة الأولى لروايتها لدار النشر، وغفلت عنها لأشهر عديدة إلى أن وصلت تلك الرسالة التي نغصت عليها يومها.
أسرعت إلى الهاتف وبصوت مرتجف تستنجد بحصة لتنقب عن الحقيقة وراء معناها، فحملت صديقتها على كاهلها مهمة الكشف عن الخفايا، فتقصّت أثر العابرين على عتبة دار النشر، حيث انكشف السر الذي تجاوز المسموح والمتخيل، “سرقوا كتابات ثريا ونسبوها لكاتب متمرس ذائع الصيت لتلميعه وإشعال نجمه الذي خبا”، وذلك كله تحت ذريعة واهية أنها كاتبة مغمورة وأن تلك الكلمات أكبر من أن تحمل اسمها، أما الرسالة فكانت من أحد محرّري دار النشر، حيث أثقل الغبن ضميره، فقرر أن يكشف المستور عن الجريمة، كاتباً أن الفائز ليس الحائز بعد أن فاز الكتاب المسروق بالمرتبة الأولى.
وقفت ثريا على حافة الحقيقة كما يقف الزاهد على عتبة الوجد، بعد أن سُلب حقها في مشهد طغى فيه الظلم على الحق، فلفّت مئزرها حول خصرها بعنف، وخطت المسافة بين بيتها والمطبخ وهي ساهمة تقبض على شعور طارئ لم تعرف كنهه، هل الرسالة هدية أم لعنة؟ شقاء أم راحة؟، تحول العالم لحظتها من غول إلى مخلوق هش، حيث أدركت أن الفوز الحقيقي ليس في أن تنال ما تسعى إليه، بل كشف ما كانت تسعى إليه، شرعت بعيون غائمة في فعل طالما مارسته دون وعي، المزيد من المخللات حيث كتبت على أغطية جرارها “من صُنع امرأة لا تستعجل شيئاً”.
سر الحائز
