اللاجئ السوري .. صراع العودة إلى الوطن

“الوطن هو المكان الذي تبدأ منه الرحلة، حتى لو انتهت بعيداً عنه”، هكذا وصف الروائي الفلسطيني غسان كنفاني الشعور العميق بالانتماء الذي يحمله اللاجئ في قلبه. في صباح ملبّد برائحة الدمار، وقف يعرب أمام منزله المتداعي، يتأمل الجدران التي شهدت يوماً ضحكاته وأحلامه. حمل حقيبته الصغيرة بيد مرتجفة، وألقى نظرة أخيرة إلى المكان الذي احتضن طفولته. لم يعلم أن تلك الخطوة التي يخطوها بعيداً عن بيته ستكون بداية رحلة طويلة من المنفى، رحلة ترافقه فيها ذاكرة ثقيلة وأحلام مؤجلة.

من الوطن إلى المنفى

يعرب، مثل ملايين السوريين، لم يغادر وطنه مختاراً؛ بل أجبرته الحرب والنزاعات الطاحنة التي اندلعت منذ عام 2011 على البحث عن مكان آمن له ولعائلته. كانت رحلته مليئة بالعقبات: أسلاك شائكة تقطع الطريق، حدود مغلقة تُشبه جدران السجن، ووجوه غريبة تراقبه بتوجس. خلف تلك الوجوه، تتردد أسئلة صامتة: من أنت؟ لماذا أتيت؟ هل أنت عبء أم ضيف؟
الحرب في سوريا، التي وصفتها الأمم المتحدة بأنها من أكبر الكوارث الإنسانية في القرن الحادي والعشرين، دفعت أكثر من 6.8 مليون سوري إلى اللجوء خارج البلاد، إضافة إلى 6.9 مليون آخرين نزحوا داخلياً. كل واحد منهم يحمل حكاية خاصة، مليئة بالألم والتحدي، وحلماً واحداً مشتركاً: العودة.
لكن، كما يقول جبران خليل جبران: “البعض يظن أن الهجرة قطيعة، لكنها في الحقيقة استمرارية في مكان آخر”. بالنسبة للاجئ السوري، الوطن ليس مجرد أرض بل حالة شعورية ترافقه أينما ذهب. يحملون أمتعتهم القليلة، لكن في أعماقهم يحملون أوطانهم، أغنياتهم، أعيادهم، ومأساة تشبه ظلالاً لا تفارقهم.
هكذا بدأت رحلة يعرب، وهكذا تبدأ رحلة كل لاجئ، خطوة نحو المجهول، مثقلة بالذكريات والحنين، ومشوبة بالخوف من ألا يكون ثمة يوم للعودة.

من الألم إلى الصمود

كان الهروب من القصف والعنف خطوة مليئة بالرعب، لكنها لم تكن سوى البداية في رحلة شاقة حملت في طياتها تحديات جديدة وصراعات من نوع آخر. أن تكون لاجئاً يعني أن تُجبر على العيش بين عالمين: عالم تركته خلفك يئن تحت وطأة الحرب والفقد، وعالم جديد تقف على أعتابه غريباً، تحاول أن تقتحم أبوابه بصبر وكبرياء، في حين تواجه نظرات تتراوح بين الشفقة والرفض.
كانت المخيمات التي لجأ إليها السوريون ملاذاً مؤقتاً تحولت مع الوقت إلى أماكن يطول فيها الانتظار. خيام ترتجف تحت المطر، ومدارس مكتظة بأطفال لا يعرفون من طفولتهم سوى حلم بسيط بحقيبة مدرسية أو قلم رصاص. أما الآباء، فكان عليهم مواجهة قسوة البطالة في أوطان ليست أوطانهم، حيث الكرامة تُختبر كل يوم.
لكن من رحم الألم، ولدت قصص ملهمة تعبّر عن قدرة الإنسان على الصمود. يعرب، الشاب الذي وصل إلى ألمانيا لا يملك شيئاً سوى لغته الأم، تعلم الألمانية في غضون عامين، وها هو اليوم يدرس الهندسة في إحدى جامعات برلين. ليلى، الأرملة التي هربت مع أطفالها الثلاثة إلى مصر، استطاعت أن تفتتح مشروعاً صغيراً لبيع الأطعمة السورية، وتحولت من لاجئة تتلقى المساعدات إلى امرأة تعتمد على نفسها وتساعد غيرها.
وفي الأردن، حيث يتركز نحو 660 ألف لاجئ سوري وفقاً لإحصاءات الأمم المتحدة، لمعت أسماء طلاب تفوقوا في دراستهم رغم ظروف اللجوء القاسية، وحصلوا على منح دولية مكنتهم من استكمال تعليمهم العالي. هذه القصص ليست استثناءات، بل دليل حي على أن اللاجئ السوري، رغم كل المعاناة، لم يفقد إرادته في التحدي وإعادة بناء حياته.
تحول اللاجئون من ضحايا نزاع عالمي إلى أبطال قصص إنسانية تجسد معنى القوة والصبر. في تركيا، ولبنان، وألمانيا، والأردن، وغيرها.

حين يقرع الوطن أبواب القلب

“الوطن هو الحنين المستمر إلى الماضي والمستقبل معاً”، هكذا وصف الأديب المصري يوسف إدريس شعوراً يشبه ذلك الذي يعيشه اللاجئ السوري كلما خطر الوطن على باله. بعد سنوات طويلة من المنفى، بدأ الوطن يطرق أبواب القلوب المتعبة، يدعو أبناءه للعودة. ومع تحسن الأوضاع في بعض المناطق السورية، برزت دعوات حثيثة لعودة اللاجئين، وأظهرت تقارير الأمم المتحدة أن حوالي 800,000 لاجئ عادوا بين عامي 2016 و2023. واليوم، مع تحرر البلاد، يبدو الطريق ممهّداً لعودة الملايين، لكنه طريق مليء بالأشواك.
اللاجئ، وهو يواجه هذا النداء الملحّ، يجد نفسه أمام سؤال يكاد يسيطر على كل أفكاره: هل أعود؟ إنه سؤال بسيط في ظاهره، لكنه يحمل أبعاداً عاطفية ونفسية واجتماعية معقدة.
بالنسبة للكثيرين، العودة تعني فرصة لاستعادة الكرامة والانتماء واستعادة الحياة في أحضان الوطن، حيث الشوارع التي حملت خطوات الطفولة، والأرض التي احتضنت الأجداد. العودة ليست مجرد رحلة مادية؛ إنها عودة إلى ذاكرة الزمن الجميل قبل أن تسود الحرب وتغتال الأحلام. إنها فرصة للبحث عن الكرامة والانتماء في بقعة لم تكن يوماً سوى امتداد للروح.

ولكن، بين الفرح والحلم، يقف المجهول كحاجز يثقل الكاهل. كيف تكون العودة ممكنة في ظل منازل مهدمة وبنية تحتية شبه معدومة؟ ماذا عن ندرة فرص العمل وغياب الضمانات الأمنية؟
تشير التقارير الدولية إلى أن 70% من السوريين العائدين يعيشون في ظروف أقل ما توصف بأنها قاسية. الطرقات مدمرة، والمستشفيات المغلقة، والمدارس التي لم تعد تصلح للتعليم، كلها تجعل العودة مغامرة محفوفة بالمخاطر. يعود اللاجئ، ولكنه يجد نفسه أمام واقع يفتقر إلى مقومات الحياة الكريمة، وفكرة إعادة البناء تتطلب أكثر من مجرد الحنين.
ورغم هذه المخاوف، يبقى الوطن، بالنسبة لكثيرين، دعوة لا تُقاوم. هناك من يقول: “حتى لو كان الوطن خراباً، يبقى أحنّ من أي مكان آخر”. العودة ليست استجابة لحاجة نفسية؛ إنها عودة إلى الجذور التي لا يستطيع الزمن أو الغربة اقتلاعها. لكن، كما أن العودة حلم، فإن تحقيقه يتطلب جهوداً حقيقية من المجتمع الدولي والدولة نفسها لتوفير بيئة تليق بمن حملوا وطناً في قلوبهم وعادوا ليعيدوا بناءه من جديد.

التحدي النفسي والاجتماعي

العودة، بالنسبة للاجئ، تجربة تعيد تشكيل الروح قبل الجسد. ففي تلك اللحظات الأولى التي يطأ فيها العائد أرض وطنه بعد سنوات من الغربة، يشعر كأن قلبه يعيد رسم خريطة جديدة للوجود. لكن هذا الاندفاع العاطفي يواجهه بحر من التحديات النفسية التي لا يمكن تجاهلها.
من جهة، هناك الحنين إلى الماضي، ذلك الشعور الذي لا يفارق العائدين، الذين يتذكرون الأيام التي كانت الحياة فيها أبسط، قبل أن تعصف الحرب بكل شيء. سرعان ما يتحول هذا الحنين إلى عبء، لأنه يضعهم أمام الحقيقة المؤلمة: ما كان لم يعد موجوداً. تلك البيوت التي كانت مليئة بالضحك والأمل، أصبحت اليوم خراباً، وتلك الوجوه التي كانوا يعرفونها تغيّرت بفعل الزمن أو الحرب. في هذه اللحظات، يصطدم اللاجئ بنوع من الصدمة العاطفية، إذ يكتشف أن العودة لا تعني العودة إلى الأرض فحسب، بل إلى ذاكرة قاسية أحياناً.
من جهة أخرى، يواجه العائدون واقعاً جديداً مليئاً بالقيود: قيود اجتماعية، ونفسية، واقتصادية. فقد تغير المجتمع الذي كانوا ينتمون إليه. تجد بعض العائلات نفسها أمام واقع مختلف كلياً عن ذلك الذي تركته خلفها. الجيران الذين عرفوهم قد رحلوا أو تغيرت حياتهم، والناس الذين يعودون إليهم يحملون ذاكرة جديدة مشوّهة بفعل الحرب. كما أن التغييرات التي طرأت على البنية الاجتماعية قد تجعل إعادة الاندماج في المجتمع القديم مهمة شاقة.
اجتماعياً، يصبح الأمر أكثر تعقيداً. قد يجد اللاجئ نفسه في وضع صعب بفعل الصراع الداخلي بين الماضي والحاضر، بين ما كان وما أصبح عليه الواقع اليوم، حيث لم يعد هو الشخص نفسه الذي كان قبل سنوات من اللجوء. سيشعر بأنه غريب في وطنه، لا يعرف كيف يشارك في المجتمع الذي تغيّر كثيراً.
إذن، العودة ليست قرار يتخذ وحسب، إنها معركة نفسية واجتماعية يومية، تتطلب من العائدين إرادة قوية لإعادة بناء الذات والعلاقات في وطن غيّره الزمن والألم.

نحو وطن يستحق العودة

تتأرجح رحلة اللاجئ السوري بين حلم دافئ وكابوس مرير، بين ذكريات جميلة عن وطن كان يوماً مكاناً للحياة والفرح، وبين مخاوف مؤلمة من مستقبل مجهول. ولكن ما يجعل هذه الرحلة استثنائية هو إصرار اللاجئ على النهوض مراراً، على الرغم من الألم الذي يعيشه، سواء في بلاد اللجوء أو عندما يخطو أولى خطواته نحو وطنه. هذا الإصرار هو ما يجعل منه رمزاً لصمودٍ لا يقتصر على تحدي الحدود الجغرافية، بل يتعداه إلى تحدي ظروف الحياة التي تغيرت بشكل جذري.
سوريا اليوم، ورغم كل ما حل بها من دمار وخراب، ما زالت في قلوب أبنائها أملاً وموطناً. كل زاوية، وكل شارع، وكل ذرة من الأرض، تحكي قصة حلم لم يموت. فحتى في وسط الدمار، لا يزال هناك من يحلم بعودة الحياة، ببناء منزل جديد، برؤية الأجيال القادمة تلعب في شوارع كانت يوماً ملاذاً للفرح. العودة جزء من الهوية، جزء من الإرث الذي لا يمكن لأي حرب أو نزاع أن يقتلع جذوره.
تتطلب العودة الحقيقية مشروعاً وطنياً شاملاً. مشروع يعيد بناء الإنسان قبل المكان، يعيد الثقة بالنفس وبالآخرين، ويزرع في النفوس شعوراً بالأمان والانتماء. العودة الحقيقية تعني خلق بيئة توفر لكل فرد فرصة للعيش الكريم، والتعليم، والعمل، والرعاية الصحية، وكل حقوق الإنسان الأساسية.
تتحقق هذه العودة من خلال الخطوات الفردية وأيضاً من خلال تكاتف الجميع: الحكومة، والمجتمع الدولي، وأبناء الوطن الذين يناضلون لإعادة البناء. العودة الحقيقية عندما يصبح الوطن مستعداً لاستقبال أبنائه الذين عانوا على مدى سنوات من الهجرة واللجوء، وعندما يتمكن هؤلاء من إعادة بناء حياتهم في وطنهم، بعيداً عن الخوف والتهديد.
رحلة اللاجئ السوري لم تنتهِ بعد، هي رحلة طويلة، مليئة بالتحديات والمخاطر، لكنها رحلة تعلم الصبر، والقوة، والإرادة. فعلى الرغم من كل الصعاب التي يواجهها اللاجئ في المنافي، وتلك التي تقابله في وطنه المحطم، تظل العودة حلماً في قلبه. يستحق هذا الحلم الكفاح من أجل تحقيقه، لأن الوطن، مهما بعد، يظل دائماً أحنّ بقعة على وجه الأرض.
ستظل أرض سوريا في قلب كل سوري، قطعة لا يمكن أن تنتزعها الأيام أو الحروب. سيظل حلم العودة حياً في القلوب، وستظل الذكريات الجميلة هي الزاد الذي يغذي الأمل. ومع كل خطوة على هذا الطريق، سيظل الوطن في عيون أبنائه، وطناً يستحق العودة.

spot_imgspot_img