ها قد سقطَت آخرُ ورقةٍ صفراءَ من على الشّجرة، بخفّةٍ، لم يسمع لها أحدٌ أيّ حفيفٍ يُذكر. سقطت ورسَت عند فردة حذائي اليمنى. دسْتُها بقدمي. لم تخشخش. إنها لا تزال طريّةً. نظرتُ في الأرجاءِ فلم ألحظْ وجودَ أي مخلوقٍ، ذاك القطُّ السّمجُ على وجه الخصوص. ملْتُ بجسدي نحو الأرض، رفعتُها وأنا أبتسمُ ابتسامةً ماكرةً لا مباليةً ودوّنْتُ عليها بقلم حبرٍ جافٍ: “تهانيّ يا أنا!” ثمّ أودعتها اتّجاهَ الرّيح!
*
كانَ يوماً عجبتُ من إشراقةِ شمسِه الّتي تحدَّت ساديّةَ الطّبيعة، فشرّعْتُ برحابة صدرٍ، كما مصراع قلبي، أبوابَ بيتي ونوافذَه لتستوردَ النّورَ والصّحّةَ والجمال. وقفْتُ أمام الحوضِ أغسلُ الأطباقَ وأنا أتمايلُ مع صوت وردة “على إيه مستغربين على إيه” وأصفّ الأطباقَ تصدرُ صوتاً كقرعِ طبلٍ يجاري النّغم حيناً، أو أمرّرُ سبّابتي بشكلٍ دائريٍّ على حوافِّ الأكوابِ الزّجاجيةِ مستمتعةً بعذوبةِ الصّوتِ الذي تصدرُه ثم أصفقُ ورذاذُ الماءِ والصابونُ يتعالى في الهواء: “أتاري البعد عنّك خلاني حتّة منك” ..
*
انتهيتُ من عملي. ألتقطُ منشفةً صغيرةً لأجفّفَ الماءَ عن يديّ ثمّ أنتقلُ لترتيبِ كلّ وعاءٍ في مكانه. وبينما تنهي وردةُ أغنيتَها وينتقلُ المشغّلُ إلى الأغنيةِ التّالية، سمعْتُ مواءً قويّاً قادماً من قريب. تجاهلْتُ الصّوتَ وحسبْتُ مصدرَه الجهاز. تبدأُ موسيقى الرّوك الصّاخبةُ بالارتفاعِ وما إن أهمُّ بالبدءِ بالرّقصِ حتّى ألمحُه منتصباً أمامي في الرّدهةِ ما بين غرفةِ الجلوسِ والمطبخ، قطٌّ سمينٌ بنّيّ اللّونِ مخطّطٌ بالأشقرِ ذو ذيلٍ طويلٍ وخميلٍ يرمقُني بنظراتٍ ثاقبةٍ ملؤُها المكرُ والتّحدّي. مَن تبقّى في العالم لم أحدّثه عن فوبيا القطط التي أعاني منها؟ وكم أخشى مخالبَها وأقشعرُّ من ازديادِ حجمِها وتقلصِه لأسبابٍ أجهلُها ولا أريدُ أن أعرف عنها شيئاً. أسكتُّ الموسيقى وتسمّرْتُ في مكاني، عيناي بعيني هذا المقتحمِ الوقحِ أدرسُ فرصي للدّفاع.
– مياااو ..
أهشّه بيدي ربّما يرحل.
– مياااو ..
رميتُه بالمنشفةِ التي كانت ملقاةً على كتفي. تراجعَ قليلاً ثم وثبَ من جديدٍ كمن يريدُ افتتاحَ معركةٍ لستُ النّدَّ الصّحيحَ فيها. هذا القطُّ يتحدّاني. إنّه يكشفُ لي مدى هشاشتي إذ هل من المنطقيِّ أن أستسلمَ أمام مخلوقٍ أكبرُه بأضعاف حجمه؟ يريد أن يقولَ لي أريني كيف ستتخلصين مني؟ أتسلّحُ بالمكنسة، أرفعُها وأقولُ عُدْ من حيث قدمتَ وإلا أوسعتُك ضرباً. أضربُها أرضاً وأنا أتقدم. صاح “مياو” عدائيّةً كمن يتوعّدُ بالانتقام ثم اختفى في غمضةِ عينٍ.
*
تعلمتُ ألا أترك أبوابَ البيتِ مفتوحةً على مصراعيها إن كنتُ لا أستقبلُ الدّخلاء. سيعود، توعّدَني بذلك. وفعلاً، في اليوم التالي والذي يليه وعلى مدى أسبوعٍ كاملٍ، كلّما فتحْتُ البابَ في الصباحِ وجدتُه يجلسُ على قدميه الخلفيتين وينتظرُ أمام البابِ، موعد ذهابي إلى العمل. وكالعادةِ أضربُه بأي حذاءٍ أجدُه وأطردُه دون شفقةٍ. لكن هذا المخلوقَ يجبرُني على التوقّف برهةً لمراقبةِ سلوكي تجاهَه. ربما هو فقط جائعٌ أرادَ بقايا طعامٍ فاسدٍ لا أكثر!! إنّه لا يشكّل أيّ تهديدٍ حقيقيّ، وليس بواردِ أن يفضحَني أمامَ نفسي كم أدّعي من الطّيبةِ والشّفقةِ والعطفِ وها هي تفلتُ مزاعمي أمامَ أوّل امتحانٍ!
*
في الأسبوعِ الثاني، حفظ أنني لا أرغبُ به، لكنّ رغبتَه بأن ينتميَ لآدميٍّ يصحبُه لم تتبدّدْ على ما يبدو. ينتظرُني تحت عجلاتِ السيارة ويموءُ مودّعاً حتى أغربَ عن نظرِه. حسناً، أتراجعُ خطوةً إلى الوراء، صرْت أترك له بعض اللحمِ والحليبِ في وعاءٍ ضيقٍ تحت شجرةٍ بعيدةٍ عن مدخلِ البيتِ وأشعرُ بالرّضا لأني ألبي رغبةَ مخلوقٍ لن يدفعَ بعد اليومِ ثمنَ اضطراباتي في التعاملِ مع جنسٍ عاقلٍ آخر غير البشر. لكنّ هذا الحالَ لن يدومَ طويلاً، فبالرغمِ من تلك العاطفةِ التي باغتَتني فجأةً، إلا أن نفوري من القططِ لم يتبدلْ ولستُ بصددِ تبنّي أحدِها، غير أني في نفسِ الوقتِ عاجزةٌ عن التّخلّصِ منه. ولنعترفْ بالطامّةِ الكبرى، أظنّني بدأتُ آلفُ وجودَه في المكانِ وأعتادُ اهتمامَه بي صباحَ مساء!
*
جارتُنا السّيدة أ. تقتني قطاً يشبهُه واكتشفْتُ بعد زيارتي لها أنّهما صديقان ويغيبان سويعاتٍ من النّهارِ قبل أن يرجعَا معا يتقاسمان الغداءَ والعشاءَ والصّيدَ والطّرائد، أكثر من ذلك، بل هما عشيقان إذا أعلمَتني بأن “قطتي” أنثى وأن شباط على الأبوابِ وكانَت تبشّرُني بقطيعٍ من القططِ الصّغيرةِ عن قريبٍ وتتحدثُ بفرحِ من سيرزقُ بولدٍ بعد حين.
بسرعةٍ، ما إن خرجْت من عندها حتّى دفعتُ نقوداً لأولِ صبيٍّ من الحارة صادفتُه وطلبتُ منه أن يمسكَ بـ “قطتي”، يضعَها في صندوقٍ ويتخلصَ منها بأقربِ وقتٍ ممكنٍ. لم يحدّدْ لي بالضّبطِ وقتَ تنفيذه العملية. لكني اليوم، بعد مرورِ أسبوعٍ ثالثٍ، أستيقظ، أفتحُ البابَ فلا أجدُ لها أثراً، أنزلُ لأركبَ السيارةَ فلا تخرجُ ملقيةً التّحيّةَ من تحت العجلات، أنظرُ إلى كعبِ الشجرةِ فإذا بالطبقِ فارغٌ تغطّيه أوراقُ الشتاءِ الحزينة. فهمْتُ أنها لن تعود. أشعرُ بالفقدِ الدافئِ والأسفِ المريرِ معاً، لقد أرادَتني صديقةً وأردتُها مطارَدةً قلقة.
*
بعد مدةٍ، سأقابلُ صبيَّ الحارةِ نفسه وسأستفسرُ منه أين رماها لا من بابِ الاطمئنان على مصيرِها كما أمنّي نفسي بقدرِ ما أطمئنُّ أنا نفسي إلى أنّني حرّةٌ من المخلوقاتِ التي تشاركُني الخطوَ فأتعثّرُ بأنماط ِالجماعة المتعارف عليها، بعدما أدمنتُ لذّة الفردانيّة. سيصدمُني أنّه لم يرَها منذ دفعتُ له النّقودَ وأنّه يترصّدُها كل يومٍ للإمساكِ بها، وسيزيدُ على ذلك أن القططَ جنسٌ حسّاسٌ لا يقيمُ في مكانٍ يكونُ فيه منبوذاً ولعلّها الآن تبحثُ عن بيتٍ آخرَ يُرحَّبُ بها فيه.
*
ببراعةِ المراهقات في الاحتيال، أهربُ من مرارةِ الحقيقةِ إلى رحابة الوهمِ المُتخيّلِ كي أخففَ وطأة المأساة. لا أريدُ أن أتخيلَها ماتَتْ تحت عجلةِ باصٍ أو تنكيلاً بين أيدي الصّبيةِ المشاكسين، بل أفضّلُ صورتَها في بيتِ رجلٍ طيبٍ لا يضيرُه احتضانُها ومداعبتها واللعب معها، لا يبخلُ بإطعامِها والخروجِ معها والتباهي بها أمام الأصدقاء، أتخيلُها تأوي إليه كامرأةٍ إلى رجلِها وتغفو في أحضانه بأمان. بجميع الأحوال، لا يجب أن أشعرَ بالذّنب، فضائي مساحةٌ تخصّني والتّخلّصُ ممّا ينغّص سلامي هو فرصتي الأخيرة للإحاطة بالحياةِ من جهاتِها كلّها.