قصة “مرض سائل”

كل يوم عندما تدق الساعة معلنة منتصف الليل، تذوي الأصوات، ويتداعى العالم وراء الحجب، ويخلو إلا من “سالمين” الجالسة في ركن منزوٍ جوار مكتبتها، تستدعي ظلها الرابض على الحائط لتجالسه، وتتحد مع جسدها الممزق، وتستعيد بقايا ألق مدفون في يومها الماسخ، تغمض عينيها بشدة وتجاهد لتتريض في تاريخ قبيلتها كي تشعر بالحرية وتلتقط الأنفاس، مخبئة تلك الذكريات في صندوق تستعين به في مواجهة المرارة التي تولد كل صباح. مرارة طافحة من صنع يديها حذرتها منها أمها كثيرا لكنها لم تنصت، رفضت الإذعان للتاريخ وأرادت خوض التجربة، معلنة بذلك تمردها إلى أن ذاقت ما كانت تسخر منه.
هل تتذكر ابنة الثلاثين عاما ما حدث قبل نصفها؟ هل تعي ذلك القرار المصيري الذي وقعته بموافقتها عندما خرجت على عرف القبيلة وتزوجت ـ في الخامسة عشر من عمرها ـ غريباً.

جلست أمام الطبيبة وحكت أول ما حكت عن اليوم الأول لموتها ومفارقة الروح للجسد، اندهشت الطبيبة مستغربة تلك المريضة التي تعاني من آثار الحمى، وأشارت للممرضة، انتبهت سالمين أن الطبيبة لم تنتبه لحكايتها وكلامها فحملقت فيها خارسة إياها:
–       أعرف مرضي أيتها الطبيبة جيداً، لكن هل ستفهمين؟
ردّت الطبيبة وهي ترتدي ابتسامة العمل: أخبريني، وسأحاول أن أفهمك..
شككت سالمين في مقدرتها على الفهم، واكتفت بنظرات زائغة في سقف الغرفة. شجعتها الطبيبة على الحديث لمعرفة ما تعانيه، قالت أخيرا:
خالفت عرف أمي وجدّتي!
سألت الطبيبة باهتمام بادٍ: كيف؟
ردّت عليها وهي تنكس رأسها لقد جئت إليك، حثثت الخطى إلى طبيبة تلبية لهاجس أموميّ مُلح سكنني فجأة أوجب ضرورة الدواء. كيف للتعب أن يطرق جسدي أنا، فأنا لا أمرض، أمي لا تمرض وجدتي قبلها!
قطعت الطبيبة المسافة بينها وبين سالمين في عدة خطوات ووضعت سماعتها على صدرها، وطلبت من الممرضة أن تقيس درجة الحرارة، فشفاهها وجبينها رسولا حرارة طارئة تستلزم الإسعاف.
وبنبرة حانية كررت الطبيبة:
ـ ممّ تشتكين؟
ـ هاجس الكلمات مستعر في رأسي فأصابتني الحمى.
ابتسمت الطبيبة:
ـ هذا مرض جديد لم أسمع به من قبل.

مادت الأرض تحت أقدام “سالمين” وتهاوى جسدها على الكرسي في غرفة الطبيبة، فهرعت إليها الممرضات وحملن جسداً يغلي على سرير متحرك، وهرولن إلى غرفة منفردة في قسم الطورائ، وبحثن في ذراعها عن وريد يستقبل محاليل الدواء، لم تخرج الطبيبة بإجابة شافية حول ما أصاب تلك المريضة التي تهلوس بالعرف والكلمات فاستدعت زوجها لتعرف السر وراء مرضها.

كان جالساً خارج الغرفة مطأطئ الرأس لا يعرف ماذا يفعل أو كيف يساعد زوجته في مرضها، رتب الأحداث كما يرتب ملابسه كل يوم ليتأكد أن كل كلمة في مكانها.. كنت نائماً وإذ بهاتفي يرن، فزعت وجلست منتفضاً من سيحدثني في تلك الساعة المتأخرة، وبنصف إغماضة رأيت اسم سالمين الممدة بجواري، حسبتها دقت هاتفي لتغيظني، لأستيقظ وأجالسها، وجدتها تكتب رسالة “أنجدني…أموت”، تحسست جبينها وجدته يرزح تحت وطأة الأربعين، فزعت وكشفت عنها الغطاء، وهممت بحمل جسدها إلى المرحاض لأغمره بالمياه، تأوهت سالمين كثيراً ورفضت ذراعي وأصرت أن تتعكز على الحائط إلى أن وصلت إلى صنبور المياه وسيّلت الماء على جسدها المشتعل، صرخت تطالبني بنزع الشوك من على رأسها ومن قدميها وأن أقتل الحيّة التي تلدغها، فأحطتها بذراعي لأهدئ روعها، لكن كانت تلكم الهواء مرة وصدري مرة أخرى إلى أن تهاوت وجلبتها إلى هنا.
بادرته الطبيبة بالسؤال: هل هذه أول مرة تصاب بالحمى؟
أجاب على الفور: بالطبع لا، كانت في بداية سنوات زواجنا تصاب بالحمى الشديدة على فترات متباعدة، لكن تكررت كثيراً وهجمت على جسدها الذي يذبل مرات متعددة وأيام طويلة مؤخراً.

انهار الزوج على الكرسي مرة أخرى وأنفاسه تتخبط كمطرقة هاربة في صدره، حمل رأسه بين يديه، محجماً عن الكلام، تاركاً الطبيبة في حيرة أكثر من قبل أن تحادثه.
“حمد الله على سلامتك” سالمين، لقد أفزعتني، وجعلتِ الغرابين تعبث في رأسي.
اكتفت ببقايا ابتسامات، جاهدَت أن تكون مشرقة، باغتت سالمين الطبيبة قائلة: هل تعرفين أن عواء الكلب نذير شؤم، وانتظار ميت؟
عجبت الطبيبة لتلك المعلومة التي لا تخضع لقياس أو تشريح، فهمتها سالمين القارئة، والتي التهمت مئات الكتب عندما كانت ابنةً لأمها وحفيدة لجدتها. أجل أيتها الطبيبة، إنها نذير شؤم في قبيلتي مثل الغربان، فضول الطبيبة جعلها تتنازل عن المسافة بينها وبين مريضتها، رغبة في معرفة السر، والكلام الذي باحت به في نوبة من نوبات الهلوسة، فأزاحت نصف الغطاء وجلست بجوارها على سرير في لفتة عطف تاقت لها سالمين واخترقت فؤادها المتعب، فأزاحت طبقات من الخوف والقلق داخل قلبها، وأشعرتها بشيء غاب وسُلب منها منذ زمن، أشعرتها بدفء إنساني وحنو صادق، وقالت لها الطبيبة “أنتِ لست وحدك، أنا هنا” فانحدرت دمعة ثقيلة على خدها حجبتها بيديها. فانتهزت الطبيبة الفرصة وقالت:

ـ جاوبيني بصراحة يا سالمين، ما هو سرك؟
أعرف أيتها الطبيبة أن وقتي قليل دعيني أخبرك: كنت في خيمة جدتي على حدود فلاة شاسعة، وتناهى إلى أسماعنا مجيء طبيب متجول إلى مجلس الرجال، بعد أن سمع عن قوتنا التي ذاع صيتها، “أن فتيات القبيلة لا يمرضن”، وأراد معرفة السبب، فهرعت جدتي إلى خيمة “المرأة الداهية” لتستشيرها في الأمر، وكنت بطبيعة الحال أمشي في ذيل جدتي، وكلي لهفة لرؤية الغريب والتعرف عليه، فحملقت فيّ المرأة الداهية بعيون ملتهبة وبصوت حاد هدرت “نهايتنا على يد حفيدتك”، خبأتني جدتي وراء ظهرها، في محاولة لتهدئة غضب المرأة الداهية، ومعرفة التفاصيل، فأشاحت بوجهها عن جدتي وأمرتنا بالخروج من خيمتها على وجه السرعة.

تحلّق رجالنا حول الطبيب لمعرفة غايته، ملثمين وجوههم لا يظهر منها إلا الأعين. حاول الطبيب استكمال بحثه عن المرض والشفاء، وكشف السر، لكن صمتهم المطبق كان حاجزاً مانعاً، وعيونهم الغائمة مخزن المعرفة لا تنطق بشيء، تلك الرغبة تلاقت مع رغبتي أنا في مغادرة القبيلة، ورؤية العالم الرحب، والتخلص من الأغلال التي تكبلني. بسطت أفكاري أمام أمي وجدتي في رغبتي بالحديث مع الغريب وجعله تذكرة لأتملص من عرف القبيلة، بالنسبة لي، الأسرار والأعراف لا تمثل شيئا، الصدفة وحدها هي التي جعلتني ابنة صحراء. تحشرج صوت سالمين وتهدجت أنفاسها، فطالبتها الطبيبة بالكف عن الكلام لترتاح، لوحت برأسها يمينا ويسارا رافضة السكوت فالكلمات تنغزها، وتريد أن تلفظها لترتاح، أين كنا؟
أجل، جدتي وأمي المسكينتان، مكثت كل منهما تناظر النار المشتعلة في جذور الأخشاب وتفكر بصمت في قرار ابنتهما الرعناء. رفضتا رفضاً قاطعا في بداية الأمر، فالغريب سيكون نهاية القبيلة، وعادت أمي تقص حكايتنا التي رضعتها مع حليبها، وأن من تخرج من القبيلة مصيرها المرض والموت، فنحن الفتيات مترابطات ونضارتنا وقوتنا في بقائنا في محيط أرضنا لا نكسر حدودها بخطوة واحدة ولا نقترن بالغرباء. قررت الهرب مع الطبيب عندما عرضت عليه الفكرة التي راقت له، وتزوجنا وهربنا إلى الخارج بعد أن لفظتني جذوري.

عاد عواء الكلب أقوى فأقوى، سدّت سالمين أذنها وقالت أعلم أنه آتٍ لا محالة. هشت بيدها صورة الكلب وسكتت برهة، لتكمل بعد أن أسندت جذعها في نصف اتكاءة على السرير: أعرف أنها كانت فكرة بلهاء تركتها تسكن عقلي عن قصد، لأجرب ما يجري في دنيا الناس، متهمة أرضي وأهلي والمرأة الداهية بافتقارهم للبصر مدعية افتقاري للعمى، وانقطعت صلتي بهم في الحقيقة لكني أتواصل فقط معهم في الحمى فأعربش كشجرة هائمة في قلب خيمة جدتي لأسمع صوتها.

خارت قوى سالمين، وتدهورت حالتها بشكل مفاجئ أربك الطبيبة. أدرك زوجها الحقيقة ببطء وقلبه مرتاب، أن روحها تتسرب من قبضة الحياة دون قدرة على مساعدتها، وتفلت منه الحقيقة دون قدرة على إثباتها، وفي لحظات الضعف التي عصفت بها لتفيض روحها، استعادت لحظات حياتها المشبعة بالرعونة والتمرد والأمان والانتماء، والمرض، فتشبثت في معطف الطبيبة الأبيض وجذبتها حتى مالت بجسدها قرب فمها، وهمست لها مضحية بأنفاسها المتبقية: الحياة خصم شرس لا تعرف لعبة الإنصاف!

spot_imgspot_img