الإطلاق التجريبي

خالد البسام والذاكرة الخليجية

فرغت للتو من قراءة كتاب “البحرين تروي“ للأديب البحريني الراحل خالد البسام، الذي غادرنا إلى جوار ربه قبل سنوات عدة عن عمر ناهز 60 عاماً، نسأل الله أن يتغمده بالرحمة والغفران.
ترك البسام للقراء العرب نحو 20 كتاباً، ومثّل نهجه نسيجاً خاصاً جمع بين التأريخ والأدب. فضّل البسام أن يكتب عن تاريخ الناس لا عن تاريخ النافذين، عن التفاصيل الصغيرة والمنسيّات لا عن القرارات الكبرى، ويحسب له تحويل التاريخ من سرد جاف إلى أحداث حية من روح ولحم ودم.

تميّز الراحل بحبه للخليج كله، فرغم تركيزه على البحرين في نتاجه إلا أنه أبحر بقلمه ليرصد ويروي قصص الخليجيين.
تكمن أهمية كتب البسام في تأكيدها على أصالة الثقافة الخليجية وعمقها، وأن هذه الأرض لم تكن يوماً هامشاً وإنما هي دائماً في مركز الأحداث.
قبل نحو عقدين من الزمان بدأت قصتي مع قلم البسام حين قرأت كتابه الأخاذ “يا زمان الخليج”، وبعد ذلك أصبحت ملاحقة إصداراته متعة لا تضاهى. كان البسام أيضاً ناقداً اجتماعياً وسياسياً من خلال كتاباته التي لامست قضايا مهمة بأسلوب هادئ وموضوعي. وملأت كتبه في هذا السياق فراغاً، لتناوله العديد من المواضيع المهمة في تاريخ المنطقة.

ولم يقتصر إرثه الأدبي على كتبه وحدها؛ فقد كان البسام رمزاً للحفاظ على الهوية الثقافية الخليجية، مقدماً رؤية توضح أن الخليج لم يكن مجرد ملتقى اقتصادي أو منطقة ثرية بالنفط، بل كان موطناً لثقافة أصيلة وجذور حضارية تمتد عبر التاريخ.
لم يكن البسام مجرد مؤرخ أو أديب، بل كان صوتاً حياً ينبض بحكايات الناس الذين يصنعون التاريخ بصمت. كان بارعاً في نسج التفاصيل الصغيرة التي غالباً ما تُهمل في القصص الكبرى، محولاً تلك التفاصيل إلى مشاهد حية تنبض بالمشاعر والحياة.

قارئ كتب البسام لا يشعر بأنه يطالع كتاباً تاريخياً فحسب، بل يجد نفسه يعيش التجربة ويشارك شخصياتها أوجاعها وآمالها. ولعل هذا النهج الإنساني هو ما يجب أن يجعل أعماله مصدراً لإعادة اكتشاف جانب من تاريخ المنطقة بعيون جديدة.
تجسّدت علاقة البسام بالكتابة ليس باعتبارها مهنة، ولكن بكونها شغفاً وحباً ربطه بهوية المكان والزمان. عبّر في كتبه عن أهمية الثقافة المحلية كجزء لا يتجزأ من الهوية الخليجية، وقدّم صورة مختلفة تمزج التاريخ بالحداثة، مبرزاً جوانب أصالته وتراثه العريق.

لم تكن كتاباته مجرد سرد تاريخي، بل كانت دعوة للاعتزاز بالماضي وفهم الحاضر.

من أهم مؤلفات البسام: “ثرثرة فوق دجلة”، “خليج الحكايات”، “مرفأ الذكريات: رحلات إلى الكويت القديمة”، “صدمة الاحتكاك: حكايات الإرسالية الأميركية في الخليج”، ” شخصيات بحرينية”، “حكايات من البحرين” و”نسوان زمان“.

قبل وفاته وجه البسام نصيحتين إلى المثقفين العرب، الأولى أنهم لا يصلحون للسلطة وعليهم التصرف على هذا الأساس، والثانية احترام القارئ وعدم التعالي عليه، فليتهم يتعظون. وكانت نصيحته هذه، رسالة واضحة تعكس تواضعه وَوعيه العميق بأهمية الأدب كجسر للتواصل بين الكاتب والناس. لقد صنع إرثاً أدبياً وتاريخياً سيبقى مرجعاً للأجيال القادمة، حاملاً معه عبق الماضي ونبض الحاضر.

spot_imgspot_img