الإطلاق التجريبي

أستروجين

ورد يا صديقي:
غارقةً صرتُ بين أزقة محرّكات البحث، أعيد السؤال بصيغ مختلفة كمن يخاتل حقيقة ما، أصوّر شاشةَ المحمول حتى عجّت حافظة الصّور بمعلومات لا أعلم يقيناً صحّتها، أمسك أوراقي بين حين وآخر لأدوّن ثم أمحو أو أضيف، أصدّق هذا وأشكّ في حديثِ ذاك، تروقُ لي تجربةٌ ما وأستنكرُ سيلَ تجارب بلا قيمةٍ، أحسّ شيئاً ما مبعثراً وأحاول التقاطه لكنّها ليست المعلومة على الأرجح.

أسير مسافات لا بأس بها على الدّوام مع قليل من التّعب، لكن التعبَ في ازدياد، متمازجاً مع انخفاض في الطّاقة، لا أريد التفكير في العمر إذ يقولون هو مجرّد رقم، ما الذي يحدث إذاً؟ هل ثمّة ما يقلقني في العمق وأخشى لقاءه أو مواجهته؟ كيف أعرف ما تفعله النسوة مع حالات الهلع المضمر هذه، وأنا لا أثق بآرائهنّ ولا وصفاتهنّ؟

مررتَ أنت بهذا المنعطف، مع خصوصية اختلاف الجنس، لكنّ المنحدر واحد ومحاذيره لا تختلف باختلاف شخوصنا، ولم يتح لي أن أسألك حول تجربتك الشّخصية، عن الخوف الذي يصبح شبحاً لأفكارنا وكيف عالجتهُ أو خففت آثاره. عن العزلة التي تفرض نفسها وبكامل الثقة تضع قوانينها البسيطة العميقة.

أتذكر لقاءك الأخير عبر وسائل التواصل وقد وخط الشّيب ناصيتك لكنك مشعّاً بدوتَ، شخصاً عادياً قد تكون في عيون فئةٍ، لكن لا ينكر أحد كمية الرّاحة المنبعثة من صوتك والسّلام الداخلي الراسخ في نظرتك، ولم يأتِ هذا بلا ثمن بكل تأكيد، ثمنٍ ليس زهيداً البتة. أعدتُ متابعة اللقاء مراتٍ ومرات كنت أفهم في كلّ منها شيئاً جديداً وأصحح أشياء أخرى، أوقفتُ الشاشة والتقطتُ صوراً مختلفة كمن يحلّل ويستنبط ويوثّق ليخرِج حقيقة ما يجهلها الكون ولا يعرفها سواي.

على رفّ الصّباح يقف السمسم المحمص وأعشاب الزعتر والميرمية والنعناع وغيرها من عيدان القرفة وأسنان القرنفل، وأكياس المكسرات بأنواعها. وبعض الفاكهة كالتوت الأزرق والفراولة، صيدلية السعادة المنشودة واستعادة النشاط والجمالين الداخلي والخارجي، كما تنعتها جموع الهاربين من حكم الطبيعة، السّاعين إلى إرضاء عشّاق المزيد من الحياة.

لم تجمعنا يوماً أحاديث جادة تستحقّ الذكر، ولا أدري لم اخترتُ لك كلمة أو رتبة صديق لي، ربما لأنك لم تكن يوماً عدوّاً ظاهراً لي أو لأنها لفظة صارت تشكو الخواءَ من معناها القيّم كقصر مهجور، أو ربما اعتبرتها محطّة مجازية بين الحروف، أضيف إليها أسباب أخرى سأبوح لك بها قبيل النهاية. على كل حال من الأحوال اقتضى الأمر التنويه فما أخبركَ به لا أشاركه في حياتي أحداً، رغبة في الإيجاز وبعداً عن ثرثرةٍ لا طائل منها.

بياض الشعر لم يؤرقني يوماً ولم أسع إلى ستره إنما فقدان الشغف كان هاجسي، حيث راحت تختلف الأشياء بألوانها وأحجامها ومواضعها في عينيّ، والأشخاص تعلو تترنح أو تتساقط بلا عودة، أُعنى ببشرتي كأية امرأةٍ بلا إسراف ولا إهمال، لكني أشعر أن الأبنية في رأسي تتهاوى دفعة واحدة، لكأنما نقاء الذاكرة مطلب ملحّ مع تقدّم عجلة العمر، وقاعات المرسم تحتاج عري الجدران ليبدأ عرض جديد. وكم فوجئت أن ملامحك تبخّرت من رأسي بعيداً، صرتُ أعمد إلى البحث عن صورك عبر محرك البحث لأستذكرها وأعتاد مرورَها بلا أثر عليّ، وعلى النّدب التي لا تبرح رأسي.

لستُ على يقين أنّ انطفاء الخيال مردّه هروب الأستروجين اللّعين من جسدي، أم أنهم كاذبون وأن الخذلان على طول المدى، واستمرار الدّفق والعطاء في غير محلّه يقتلان هرمونات الكون كله. لكني لستُ يائسة بعد وعندي من الأحلام ما يغرق الشتاء دفئاً، وما أعانني على رؤية بشاعتكَ من الداخل لا بدّ سيكون عوناً لي على النسيان الأبديّ، وما لا يُروى ويُغذّي مصيرهُ الموت.

أجلس اليوم بكامل أناقتي وثوبي الأزرق البحريّ يشهد على صباح ناضج شهيّ الرائحة، كضمّة وليد بين الضلوع. القهوة يتصاعد بخارُ أسئلتها عالياً، فما هو بالمكان المعتاد لها ولا الطقوس تشبه طقوسها اليومية، عيناي كذلك تبسمان وتخجلان من سيدةٍ ما، غريبةٍ قريبةٍ تجلس أمامي فلا تكلمني ولا أكلمها لكنّا نتشارك كل شيء إلا الصّدق. تأخّر هذا اللقاء زمناً طويلاً وكان لا مفرّ منه، إذ البادئ في الحديث سيكون أنا بلا أدنى شكّ لأني صاحبة الدّعوة وصاحبة الفم والصوت كذلك.

لم أفكر في مقدّمة تليق باللحظة، انطلقتُ بكلماتٍ قاسية حبيسة وبّختها فيها وعمّقت جروحها من غير أن أوصلها إلى مشارف الدّمع، ولأنها مثلي تبلّدتْ، ظلّتْ تنظر إليّ بطريقة تشي أنّها تحاول استذكار ما
كنت أنبشه من ماضٍ، مع ضياعٍ بلا معنى يشي بما تحسّه أو تكتمه. بين جملي الكثيرة وموضوعاتي المختلفة كنتُ أرتشفُ شيئاً من قهوتي كما لو أنّ الموتَ أمرٌ تافه، والألم اتجاهٌ إجباريّ للمرور إلى وجهتي، قلتُ كثيراً وأسرفت في التجريح إلى أن تعبتْ، فهدأ صوتي ومددتُ كفّي صوب رأسها فاصطدمت أصابعي بزجاج المرآةِ، عندها أطرقتُ طويلاً.

ورد.. لم أدر إن كان احتفالاً ما أردتهُ من جلستي تلك، أم نيةٌ لعقد صلحٍ مع روحي، مع ظلّي، مع الجانب الخفيّ مني، بعد أن صادفتُ صورتكَ على إحدى وسائل التواصل وكانت على صفحة صديقٍ لك ينعاك. لن تقرأ ما كتبتُ وليس لكَ بعدُ عنوان على الأرض، ولستَ صديقي.
إنكَ النزف الذي لا يتوقّف إلا ليبدأ من جديد، إنكَ الحاجزُ الذي ظل يعلو بيني وبين روحي حتى أضعتُها.

spot_imgspot_img