إنّ للأمل قدرة مدهشة على بثّ الحياة في احتضارِ الأرواح المتعبة، وتنوير أركانها المظلمة بشعاعٍ رقيقٍ يتسلل خلسة، لكنه يحمل قوة تجديد هائلة تعيد تشكيل التصورات والآمال. لكن هل هذا الشعور قوةٌ حقيقية تدفع الإنسان إلى الأمام، أم أنّه مجرد وهم يطيل عذاب الأحياء؟
قبلَ أيام أنهكني اليأس من تحسّن الأحوال على الرغم من الجهدِ الذي لا أتوانى عن بذلهِ، وفي محاولة أخيرةٍ لتجنب الغرق، شغلتُ نفسي في البحثِ عن معنى مصطلح “العدمية”، فوجدت أنني أخلط بينه وبين ما أعرفه عن “العبثية” و”انعدام الجدوى”. ثلاثية من الأفكار التي تبدو، ربما، متناقضة بقدر ما هي متقاطعة، تحاول تجريد الحياة من معانيها التقليدية، وتستنكر جميعها أهمية كلّ شيء بالمطلق، حتى الأمل. واتضح أن فكرة الأمل شغلت عقول الفلاسفة وأثارت تساؤلات عميقة حول جدواه ودوره في حياة الإنسان.
الأمل بين الحقيقة والوهم
رأى فريدريك نيتشه أنّ الأمل أحياناً أشدّ الأوهام إيلاماً. وصفه في كتابه “ما وراء الخير والشر” أنه “أسوأ الشرور، لأنه يطيل عذاب الإنسان”. بالنسبة له، الأملُ غالباً سلاحٌ ذو حدين؛ إذ من المحتمل أن يقود الإنسان إلى التشبث بأوهام المستقبل بدلاً من مواجهة الواقع بعناد. رآه قيداً يُخضع الأفراد لانتظارٍ دائم ويبعدهم عن التحرر الحقيقي.
أما آرثر شوبنهاور، فقد كان أكثر تشاؤماً في رؤيته للأمل، واعتبره ضرباً من الخداع الذاتي، إذ يرى أن الإنسان يعاني في سعيه وراء الرغبات والأحلام التي غالباً ما تنتهي بخيبة الأمل، حيث يشير إلى أنّ الأمل يقود الإنسان إلى الألم، ويجعل الفشل أكثر مرارة. لذا، فهو ينصح الفرد بتقبل معاناة الحياة كما هي، بدلاً من التشبث بما قد لا يتحقق.
الأمل مكوّن روحاني
في المقابل، منحَ سورين كيركغارد الأمل دوراً عميقاً في مواجهة القلق الوجودي واليأس. بالنسبة له، الأمل عنصر روحي جوهري يقود الإنسان للبحث عن الإيمان والراحة الروحية. كتب يقول إن “اليأس هو المرض المميت”، وأن الأمل هو السبيل الوحيد للانتصار على هذا المرض، فهو شعلة تتقد في نفس الإنسان وتدفعه للنظر إلى الحياة بمعانٍ أسمى تتجاوز مادية الوجود.
وبالمثل، اعتبر إيمانويل كانط الأمل جزءاً أساسياً من توجه الإنسان الأخلاقي. في رأيه، الأمل هو ما يحفز السلوك الأخلاقي، إذ يدفع الإنسان للاعتقاد بوجود عدالة وسعادة يترتب عليهما فعل الخير. رأى كانط أن الإنسان بحاجة إلى الأمل لتحقيق السعادة نتيجةً لاتباع الفضيلة، ما يشجعه على التمسك بالقيم حتى عندما يبدو الواقع قاسياً.
الأمل إرادة الحياة
أما ألبير كامو فقد عالج الأمل بطريقة فريدة تميزت بالتركيز على فلسفة العبث. في كتابه “أسطورة سيزيف”، يرى كامو أن الحياة نفسها تبدو خالية من المعنى، لكن الأمل في غدٍ أفضل يمكن أن يكون واحداً من أسباب استمرار الإنسان في النضال. ومع ذلك، حذّر كامو من الاعتماد على الأمل كمخلص من عبثية الوجود، مفضلاً التركيز على اللحظة الراهنة والعيش فيها بوعي كامل كنوع من التمرد على العبث.
إرنست بلوخ فيلسوفٌ آخر تناول الأمل باعتباره قوة دافعة للتغيير، ورأى في كتابه “مبدأ الأمل” أن الأمل ليس مجرد عاطفة أو شعور، بل طاقة توجه الإنسان نحو الابتكار وصناعة المستقبل الأفضل. بالنسبة له، يمثل الأمل نزعة إنسانية أصيلة تدفع الفرد للسعي لتغيير واقعه والارتقاء به، ما يجعل الأمل في حدّ ذاته مبدأً يوجه التاريخ ويرسم ملامح المستقبل.
أما جان بول سارتر، فقد تناول الأمل من منطلق الحرية والاختيار، ورأى أن الاعتماد على الأمل يقود غالباً إلى الانتظار السلبي والتعويل على قوى خارجية. بالنسبة له، ينبغي للإنسان أن يتخذ موقفاً مسؤولاً، فيصنع معانيه ويجد قيمته بعيداً عن فكرة “انتظار الأمل”، ما يحثه على تحمل مسؤولية وجوده في كل لحظة، وليس فقط في إطار توقّعات المستقبل.
وهناك مارتن هايدغر الذي ربط الأمل بشعور الإنسان بالقلق حيال الموت والفناء، ورأى فيه جزءاً من طبيعة الإنسان الحائرة في مواجهة عجزه عن السيطرة على الزمن. الأمل عند هايدغر ليس حلًّا بقدر ما هو إشارة إلى رغبة الإنسان في تخطي حدود فناءه، ورغم أن هذا الأمل لا يقدم حلولاً مطلقة، فإنه يمنح شعوراً بالاستمرار.
طاقة إيجابية
وفي سياق الفلسفة الإسلامية، يتحدث ابن سينا عن الأمل بوصفه طاقة إيجابية تُعزز من الإرادة الإنسانية وتحثها على الخير والعمل البناء. فالأمل عند ابن سينا محفز معنوي قوي يعتمد على الإيمان بإرادة الله وتقديره للأمور. وفي فلسفته، يرى ابن سينا أن الأمل جزء من الرحلة الروحية التي تدفع الإنسان للتواصل مع الجانب الروحاني من حياته، حيث يقود الأمل إلى الطمأنينة ويمنح الروح سلاماً داخلياً يدفعها إلى أداء واجباتها الأخلاقية. وبهذا، لا يعد الأمل وسيلة للهرب من الواقع، بل طاقة إيجابية ترفع الروح، وتدفعها إلى العمل الدؤوب والسعي وراء تحقيق الخير في الحياة الدنيا والآخرة.
إن الأمل، كما يراه هؤلاء الفلاسفة، يتأرجح بين كونه نعمة أو نقمة، بين وهم وخلاص، بين قوة تجدد الروح وعبء يطيل معاناتها. لكنه في كل الأحوال، الشعلة التي مهما تذبذبت أمام رياح الواقع تستمر في توجيه الإنسان، فيغدو الأمل خيطاً رفيعاً يربطنا بالحياة حتى عندما تكون بلا معنى واضح.
الأمل، بعيداً عن كل الفلسفات، هو تلك النشوة العابرة، أو “نشوة اللحظة” التي تولد من رحم اليأس حرفياً، والمخاض الذي يولد منه كلّ ما نحتاجه، فتتلاشى الأسئلة الكبرى.
في ذروة هذه الفوضى العميقة، ينبعث شعاع الأمل بسيطاً نقياً، كصوتٍ خفي يهمسُ بحبّ بأن الحياة – مهما بلغت قسوتها – لا تزال تعلنُ بأنّ الشروق قادمٌ لا محالة.