أدهشني كوب اللبن الذي رأيته في البقالة لأول مرة منذ بدء الحرب، سألت البائع باستغراب: لبن؟ وهل دخلت البضاعة البلد؟
أجابني وهو يرتب البضاعة: دخلت بعض الألبان منذ أسبوعين تقريباً!
انتبهتُ أنني من أسبوعين لم أصل إلى السوق، فقد عشتُ صراعا مرّاً مع النزوح.. المهم أنني اشتريت كوبين، ومضيت تجاه البيت. عبرتُ في الشارع الممزق القديم، كان هذا الحيّ من أجمل أحياء المخيم، وها قد أصبح خراباً.
عادت بي ذاكرتي حينما مررت به في فجر السبت الأول من الحرب، وتذكرتُ آخر كوبي لبن اشتريتهما حينما كنت في طريقي إلى المدرسة. في ذلك الفجر كنت أضع ثمن اللبن على الطاولة. بينما أسمع صوتاً يشبه بداية غليان الماء. تسمرتُ لحظةً مكاني لأدرك ما الصوت.. وما هي لحظات حتى اندلعت الشرارة الأولى في الحرب، وبدأ الغبار والشرر يتطاير في كل مكان.
لا أعرف.. ألقيت بأكواب اللبن والوسائل التعليمية وكتبي ونظارتي ومحفظتي في الحقيبة بسرعة، ومضيت تجاه الغرب أطوي الأرض القلِقة مسرعةً إلى البيت.
مرت أيام الحرب الأولى، وأذهلتني أحداثها عن تذكر حقيبتي المدرسية المأهولة بذاكرة اليوم الأول، لولا أن لفتني سؤال أمي لأخي: ألم تجد لبناً في الأسواق. وماذا يُصنع من اللبن ليُمنع؟ يومها، ناولتها الكوبين ضاحكةً: ربما يخافون من عظامنا المتجذرة في الأرض يا أمي.. هذا نصيبك كنت قد اشتريتهما فجر السبت!
لم أكن أعلم أنّ الكوبين الصغيرين سيطعمان الحارة كلها، فقد صنعت أمي من اللبن الممزوج بالحليب والماء كمية كبيرة من اللبن وَوزعتها على نساء الحارة اللاتي قمن بتصنيع اللبن بالطريقة ذاتها حينذاك.. وكان ذلك آخر عهدنا بحياتنا التي كنا نحبها.. تفرّق جيراننا الطيّبون، وخوت بيوتنا الدافئة، وتمزقت أحياؤنا وحياتنا.
أمشي وقد حملتُ وجع الشارع على كتفي، بينما تحملني ذاكرتي التي لم تهدأ، يا الله، وكأنّ كل شيء حدث أمس، وهل تغير هذا اليوم عن أمس؟ وما أثقل الأمس! وما أبعد الغد!
وها أنا أكتب هذا النص والله والصواريخ تتناثر حولي من كل اتجاه، وكأن كل يوم هو اليوم الأول والأخير في الحرب.. وكأن هذه الحرب اللعينة لا تعرف التعب، ولا تريد أن تموت.
أخيراً، وصلتُ بيتي، وضعتُ كوب اللبن سعيدةً، وأردت تذوقه ولكنني مع أول لقمة، تعكّر مزاجي بمذاقه الحامض! لقد أفسد الحر اللبن. كما أفسدت الحرب كل شيء.
لا أدري لماذا ضحكت طويلا! أجل ضحكتُ، وأنا أسكب بقاياه، وأقول ساخرةً:
وماذا يضير؟ هل يَصلح اللبنُ إن كُسِّر الظهر؟