الإطلاق التجريبي

ستارةٌ منسيّة

لا أخفيكم أنّي جلست مرّةً أستمع إلى أحد المتحدثين المهتمين بالسّينما وخداعها البصريّ، حيث عرض لنا مشاهد لموضوعات مختلفة تخلق لدينا الوهمَ بحقيقتها الملموسة وما هي إلا لوحة أو دمية، ومن بين ما عرض صورة تمثل مشهداً ليلياً لبناء بطوابق عديدة، يظهر نوافذ الشّقق المضاءة مدينة تنام سويعات قليلة لتهبّ من جديد بكامل حركتها وحياتها. ثم مشهداً آخر يمثل الانطفاء التّدريجي للأضواء المنبعثة من الشّقق حتى يسود الظلام وتغرق المدينة في سباتها.

أرانا كيف أنّ لوحة كرتونية، أحدثوا ثقوباً فيها وفق خطوط متوازية باستخدام رأس دبوس ثخين وضعوا خلفها مصدراً ضوئياً، كانت كفيلة بدفع كلّ راءٍ ليعيش تفاصيل الوقت سهراً ثم نوماً في بناية لم تُبن أصلاً، فنحن نرى ما نريده في النهاية وما تصوّره عقولنا. شرح لنا كثيراً عن تطور أدوات التصوير وحيلهِ، لكن رأسي في الواقع راح يجوب الماضي بما فيه من عتمةٍ ونور.

أثناء عودتي إلى المنزل ليلاً عنّ لي السّير وكان ذلك من أعراض الحنين التي تباغتني كلّ مدّة، أجد المشي لمسافات طويلة حبّة مسكّن، فضاءً تعربد فيه الذّاكرة وتثمل، ربما مللت في السّنوات الأخيرة زيف الحكمة وادّعاء القدرة على الاحتمال. رحت أقذف ما يعترض قدميّ من حصى، أدندن أغنياتٍ لم أعد أحفظها كلّها حتّى أصابني شيء من الألم في ساقيّ، دخلت حديقة كان بابها الحديديّ المشرع يدعوني إلى الدّخول فلبّيت، لم يكن فيها كثير من النّاس أو غادر معظمهم مع حلول الظلام سيما وأنّه يوم عمل وليس عطلة. على مقربة مني سيّدة شابّة مع طفليها يركبان درّاجتين صغيرتين يدوران حولها بفرح، تابعتهما قليلاً ثم التفتّ صوب الشّارع، أمامي بناية عالية مضاءة النّوافذ بصورة كاملة، معظم نوافذها مفتوحة تستقبل هواءً طرياً وقد تحسّن الطّقس هذا الشهر، رحت أجرد أنوارها بدءاً من الدّور الأخيرمنها حتى آخر واحد من الدور الأول.

استفاقت فجأة في خاطري قصص البناء الكبير الذي ارتفع قبالة بيتنا في موجة هدم المنازل الصّغيرة وارتفاع الأبنيةِ متعددة الأدوار، كان بيتنا بدورين لكنّ والدي بنى جزءاً من الدور الثّالث: مطبخاً كبيراً مجهّزاً بمستلزمات الشّرب والأكل السّريع تشرفُ أخواتي على العناية به نهاراً وإمداده بالمؤن، بالإضافة إلى مجلسٍ كنت وصحبي ندرس معاً فيه ونمضي سهراتنا أثناء العطل، نضع أحياناً سجّادة أمامه في ليلات الحرّ الشّديد. يحجز رؤيتنا عمّن حولنا سور إسمنتيّ بارتفاع مترين تتخلله فتحات مربّعة الشّكل تتيح لنا مراقبة المحيط، والحق أنّ والدي لم يكنْ يرغبُ أن تكون جلساتنا الشبابية قريبة من الأسرة وكان الأمر في صالحنا كذلك.

كم ضحكنا ليلتها، هيثم وسعيد وحسن وأنا، فرشنا سجادتنا خارج المجلس، مع إبريق الشاي والمكسرات، التي اجتمعنا على أوراق اللعب، مع مذياع ومسجّل هيّأ لنا أن نتلذّذ بالاستماع إلى أغاني وردة الجزائرية والشغف بأغنياتها.

افتتح العرضَ الليلي مبكراً جارُنا نعيم يشدّ زوجته من شعرها وصراخ يتعالى ثم تهبط وتيرته، حتى انقضّت زوجته على وجهه بأظافرها فأفلت شعرها مسرعاً صوب النافذة يغلّفها مرخياً السّتائر، والله أعلم كيف كانت نهاية الجولة حيث استمرّ صراخ طفيف ينبعث بين حين وآخر، غير أنّا تبيّنا سبب العراكِ إذ زارت بيت أهلها دون إذن منه.

من النافذة الأخرى نشبت معركة بين أبي ليث وشريكه في المتجر يتراشقان الاتهامات بخيانة الأمانة، انتهت بصفق الأبواب الذي عكّر هدأة الليل.

نافذة ثالثة امرأتان تثرثران برفقة قهوة. في الرابعة رجل أمامه أوراق، إنه دكتور جامعيّ لا أعرف بالضبط اسمه، لكنه دفعَ الصحبَ لاستذكارِ المواقف المختلفة بين مضحك ومبكٍ في أروقة الجامعة وقاعاتها.

تركنا متابعة المحيط وانغمسنا بالشّدة (ورق اللعب) وكان “الطرنيب” ضالتنا ولعبتنا المفضلة، نكرّرها لدورين أو ثلاثة مع الشّاي وصوت تقشير الفستق مع مداحراتنا وخداع بعض منا وضحكاتنا. فجأةً أتانا همس سعيد: هسسسسسسسسسس هسسسسسسس. التفتنا إليه، ليشيرَ أن ضعوا أوراقكم بهدوء، ثم أشار صوب البناية المقابلة ودمعُ عينيهِ يطفرُ من شدّة الضحك مع وجهه الأشقر المحمر. حسبناه يريد إشغالنا لتبديل أوراق اللّعب خاصتنا كعادته، فعضضنا بالأصابع كلّ على حصّته، وأسكتناه معترضين على محاولته الفاشلة في تخريب مسار اللّعب، فما كان منه إلا أن رمى ورقهُ أرضاً وصار يقهقه في حالة سجودٍ مثيرةٍ، انتابنا عجبٌ مما يحدث حتّى رفع رأسه وعاد يومئ من جديد إلى البناية المقابلة.

وضعنا أوراقنا أرضاً بحذرٍ وراحت عيوننا تجوسُ المكان، إلى أن عثرنا على المشهد القاتل. حتّى اللحظة هذي أشعر بالأسف لما قمنا به. شباب في ريعان الطيش وذروة النار المتقدة في الجسد، فغرنا أعيننا قبل الأفواه نتابع ساكناً جديداً لم يسعفه الوقت لتعليق الستارة، عاجلهُ الاندفاع المتّقد معتلياً جسد زوجته الشّابة مهراً جامحاً، يحمحم كلاهما في مخيلتنا لنجنّ بدورنا أكثر فأكثر. في ذلك اللّيل البهيم أمضينا السهرة في دورة المياه واحدنا تلو الآخر، يا لصفاقتنا.

يا الله كم أخجل ويتلبّسني العار بلا نهاية! سافرتُ إلى آخر الدنيا، تزوّجت ثم انفصلت عن زوجتي، تخطّيت حاجز الأربعين بجدارة، وبعدُ أهرب من استذكار تلك الحادثة. لم أدر أأشكرُ اللّيل على ستره للكون وبشاعاته، أم أعذلُ النافذة العارية بلا ستارة؟

spot_imgspot_img