تعود الكاتبة بثينة العيسى إلى عالم الرواية بعد انقطاع وفاصل بإصدارها: ”شرف المحاولة: معاركنا الصغيرة ضد الرقابة الصادر في عام 2023“.
رواية ـ إن جاز اعتبارها كذلك ـ في حجم قبضةِ اليد، وكأنها طوبة صغيرة من جدران البيت، شاهد على ما يحدث داخله، تعود بثينة لتجلس بجوارنا على أرض الواقع، وتغلق الأبواب.
نحن الآن، بالداخل.
أسرة صغيرة، أم وثلاثة أبناء، يبدو العدد قليلاً جداً لتخرج منه كل هذه الخدوش، لكن الحياة تترك آثارها.
أمٌ وثلاثة أبناء
أم يائسة ـ مضطربة ـ تحاول اقتناص أي فرصة لملاقاة أولادها، لا لأنها تشتاق إليهم، أو ربما تفعل، لكن ما هو مؤكد أنها تريد الاهتمام، تريد ذلك الشعور بأنها تحيا حياة عادية، وأن تحقق صورة العشاء العائلي الذي في خيالها ـ يتجمّعُ أولادها حولها ـ كما تشاهد في التلفاز، ورغم أنها تكره التصابي والتأمرك، إلا أنها تدرك أن تلك الصورة هوليودية تماماً.
تعيش في خيالها وترسم خططاً، تعرف أن عقبات كثيرة تقف في طريقها، تعرف بعضها، والبعض تتجاهله، وآخر لا تتوقع حتى وجوده. تقول: ”كانت حياتها محض محاكاة رديئة لأفلامٍ هوليوودية رديئة”.
متاهة الصمت
كم تبدو الروابط من الخارج قوية، وكم هي هشة من الداخل، كل فرد يعتقد أنه الضحية/الأفضل/ الذي لا يفهمه ولا يقدره أحد ولكلٍ هشاشته التي لا يدركها الآخر، لأنه لا يفصح عنها، لا يستطيع قولها بصوت عالٍ، وإن حدث ـ كما حدث في نهاية الرواية ـ ستختلف الرؤية لكل المواقف، ستندلع حربٌ صغيرة لن ينتصر فيها أحد، إلا من لم يحضر.
للأم، جرح في أمومتها، وللأطفالِ جراح من طفولتهم، توارت عن الأنظار لسنوات وها هي تخرج الآن مجتمعة.
الأم مهمشة من قِبل أولادها الثلاثة، خاصة بكرها، لكنها تظل تُذكر نفسها أنهم على الأقل يعيشون في البيت نفسه ولو أنهم في طابق آخر، تشعر في قرارة نفسها بالوحدة وبفشلها كأم، لكنها تحاول تجاهل الأمر.
يُخطئ الآباء في حق أولادهم أيضاً
يعتقد البعض ـ الآباء تحديداً ـ أن تجاهل المشكلة قد يجعلها تذبل، وأن الوقت كفيل بذلك، لكن هذا غير صحيح، وما يزيدها الوقت إلا تعقيداً، ربما اعتقدت «خولة» أن جرح «ناصر» قد يندمل مع الوقت، أو ينسى ما حدث، لكن الوقت زاده اتساعاً لم يعد يجدي معه شيء، ربما لو حاولت التفاهم معه وهو صغير، لو اعترفت بأنها كانت «أماً» لأول مرة، ولا تعرف ما يجب فعله، أن الأمهات يخطئن أيضاً لأنهم بشر لا ملائكة، أن في مرحلة ما على الكبير أن ينزل للصغير ليفهمه، لأن الأخير أصغر من أن يستوعب تلك المسافات.
جراح الطفولة
ناصر في الثلاثين، يعاني ـ غالباً ـ من جرح الهجر، لم تفهمه أمه فهرب منها، لم تحاول مد الوصل بينهم مرة أخرى، تركته عند جدته، ظل أياماً ينتظر أن تأتي لأخذه، لكنها لم تفعل. صار رجلاً كبيراً منعزلاً، يتخبط في اتجاهات عدة، ويرى أنه أهدر عمره في اللاشيء، لكنه رغم كل ذلك، متسق مع ذاته ولو بهشاشةٍ.
يوسف، يعاني ـ غالباً ـ من جرح الخيانة، يحب السيطرة وفرض رأيه، كبر ليجد نفسه مضطراً للقيام بدور الأب، والابن الأكبر، يلبي طلبات البيت، لكنه طوال الوقت يشعر بأنه مهما حاول وساعد فهو ليس كافياً، لا لشيء إلا أنه ليس ناصر.
كل يسبح في فلكه
ابنان نقيضا بعضهما، الكبير الذي درس في المدارس الأميركية وشاب لتصبح له أفكارٌ متحررة وتحترم حدود الآخرين، والأوسط الذي درس في مدارس حكومية بأفكاره المتحجرة ورغبته في فرض سيطرته على كل شيء، ثمة عداوة كانت تُجهَّز على نار هادئة ومواقف تتالت اضطر كل واحد منهما أن يخفيها لسنوات حتى انفجرت. أما حمد، فهو الصغير الذي يُغفر له لصغره لا أكثر، لعدم إدراكه ما يحدث حوله، وكبر غير عابئاً بأحد.
آية معكوسة
غالباً، ما يكون الأبناء سبباً لمعاناة ذويهم، فتخرج منهم تصرفات طائشة/ مشينة /مُخجلة، ويظل الوالدان يحاولان التعايش مع ما حل بهم من بلاء، لكن ماذا لو صدر التصرف من الأهل؟ ماذا لو تحولت الأم لعارٍ؟ وملصقات يتم تداولها بين الناس، وعلى الأولاد أن يتحملوا تبعات ذلك، فقط لأنهم أولادها.
«علمتني الحياة أن علينا أن نُحب الناس بالطريقةِ التي يُحبون أن نُحبهم بها» مريد البرغوثي. يميل الأهل للاعتقاد بأنهم يعرفون كل شيء عن أولادهم، ما يحبون وما الذي يسعون خلفه، وأنهم أكثر درايةً دائماً بمصلحتهم. لكن هل هذا صحيح؟
أحبت خولة بكرها على ”طريقتها الجاسوسية الشاذة“، رغبت في أن يحصل على التعليم الأميركي، أن يخرج نسخةً أخرى بعيدة كل البعد عما هو مألوف في مجتمعها، ”لأنها اعتقدت حينها أن هذا الأفضل“ ثم، قررت أن تنزعه مما ألِفهْ ”لأنها رأت أن خيارها سيأخذه في طريق آخر لم تكن تتوقعه“. الآن.. عربيته الركيكة التي تشتكي منها وأفكاره التي تنتقدها أليست هي السبب فيها؟ التعليم الذي تعلمه؟ (الذي اختارته).
تقول بثينة: ”هكذا هو الأمر إذن، سيرى العالم كله باب النجار المخلوع، مدهوناً بالورنيش لامعاً وصقيلاً“.
كل ما أرادته «خولة» عشاء وصورة عائلية، لم تحصل عليهما، تقول: «كأن كوة قد انفتحت في نسيج الزمن لترى ما ستكون عليه بقية أيامها في اليباب، وفكرت في كل الأطباق التي لم تعدها، والمقادير التي لن تشتريها، والأطقم الجميلة التي لن تضطر إلى استخدامها قط.. ورأت نفسها في الغد، واليوم الذي يليه والذي يليه أيضاً: حياة مديدة قاحلة، حيث البيت فارغ جداً، وخولة تأكل وحيدة».
موعد على العشاء
رواية/ نوفيلا، أشبه بقصيدة الومضة، كلمات قليلة، معان كثيرة تضرب في نواحٍ عدة.
لا على اللغة «كبرت ونسيت أن أنسى»، لا على الحبكة والفكرة «خرائط التيه» بل على الواقع، هذا ما تعول عليه بثينة هنا، لعبة نفسية جديدة، لكنها عن الأسرة والأمومة لكن من منظور مختلف عن «عائشة تنزل إلى العالم السفلي/ خرائط التيه»، وتدور كاملة في مكان واحد/ مشهد واحد/ حدث واحد «موعد العشاء».
تحرص بثينة على بث روح/ جوانب من الثقافة الكويتية كما «السندباد الأعمى أطلس البحر والحرب» ربما هنا ليس بذات القدر، لكن له حضوره، كما ثمة عودة بسيطة لثنائية الشعر/الحب ـ ولو بشكل بسيط ومختصر ـ بعد «كبرت ونسيت أن أنسى».
تقول: «وأحس نفسه ابناً لاثنين من المعاتيه، يخلطان الشعر بالحب، والحب بالزواج».
مُتعة التفاصيل
حديثها عن اللغة، مؤكدةً على مكانتها في ذكرها لأبياتٍ شعرية/ انتقاد ركاكة العربية لدى ناصر/ بعض الكلمات: «البياب/ خوارم المروءة..».
تقول: «لقد رأت نفسها في المنام ليلة أمس تنزع عنها قُرطاها».
تفصيلة صغيرة تْعطي دلالات مستقبلية وشخص كـ«خولة» ستؤثر به، وكقارئ سأدرك أن خطب ما سيحدث.
تمر بثينة بخفة على المشكلات دون أن تُشعر القارئ بأن ثمة مشكلات عديدة تُناقَش، فالأم، الدكتورة والمثقفة، اشتعلت ضدها وسائل التواصل الاجتماعي ـ كما يحدث في الواقع ـ فالخطأ البسيط، الكلمة سهواً لا تمر مرور الكرام، ُتنصب المشانق للجميع وما من ناجٍ، قد تجد فجأة تصدُّراً لمقطع قديم منسيّ، فحتى ما مضى لا ينجو.
في النهاية، لن يرى أحد انعكاسه في عيون الآخرين وهي مغلقة، والجدران ستصير شفافة، وهشة بما يكفي فتسقط.