أربع صفحات، أو أكثر
في الجزء الأخير لمجلّات تهتم بأخبار الفنانين.
أتذكّر أنّ مضر الحلّاق
كان يترك لنا الكثير منها فوق الطّاولة لنمرّر الانتظار،
ولتساعدنا في تخفيف عقدة الذّنب
إذ خالفنا وصية الأهل
وتركنا أبو حسّان العجوز
الذي لا يملك إلّا مجلّات
تحكي عن النّقابات العمّاليّة وأهداف الحزب ومؤسّسة الأعلاف..
ثم تنمحي عقدة الذّنب تماماً
حين نتذكّر ماكينته اليدوية،
تلك التي كانت تعضّ شعرنا دونما رحمة!
الصّفحات الّتي يقف فيها المجتمع راسخاً وَواثقاً من نفسه،
صفحات تكاد تشمّ رائحة العطر والأجساد منها:
رجالٌ بخدود ثريّة، إناث وجوههنّ تحمل لهفة غير مفهومة وشبقاً فاقعاً،
وتحمل ابتسامةً مشغول عليها بعناية تصل حدّ الحقيقة.
تلال متفرّقة من البرونز المتعرّق على امتداد الصّفحة،
خلسة كنّا نمرّر راحاتنا، لربّما تحصل المعجزة!!
مرّة فقط انتبهت أنّ إحداهنّ لا تبتسم
تساءلت يومها وحاولتُ أن أخمّن السبب!!
أربع صفحات كان اسمها: “مجتمع”،
في نهاية مجلّة ملوّنة تهتمّ بأخبار الفنّانين،
جعلتني لسنوات أبحث عن المجتمع!
أربع صفحات أشكلت عليّ معنى المجتمع،
أنا الّذي ولدت في مكان يقف على ساق واحدة
وكان أكثر ما يدهشني أنّه يحمل الاسم نفسه!
كان متوتّراً وجائعاً ومهملاً،
مبللاً بكلّ شيء،
ويرتجف من البرد، برد كلّ شيء، ويحمل ذات الاسم!
أتذكّر أنّ مضر الحلاق
فاز بالضّربة القاضية حين كتب على بلّور محلّه: “المزيّن مضر”
وعلى الجدار الأوسع، بعناية واهتمام،
ألصق صورةً لصبيّةٍ بيدها زجاجة بيرة لم أعد أتذكّر ماركتها،
كانت تدسّها تماماً في المنتصف بين نهديها السّمراوين،
حيث لا نعود نفهم من أين يأتي هذا الرّشح للبرودة،
ولا تلك القطرات على بلّور الزّجاجة!!
بينما كان ”الخميني“ يتصدّر جدار أبو حسّان بلحية ماكرة،
وثورة خلف ظهره، وعينان تلمعان بقسوة..
وفي الجدار المقابل كان ”عبد النّاصر“ يبتسم لأحد ما!!
ربما للماكينة التي كانت تعضّ شعرنا!!
صورتان باهتتان بشريط لاصق مصفرّ في دكّان رطب ومعتم!!
ربما كان يبتسم حسداً
من العدد الذي لا يحصى لصور القائد الرمز الذي تتبعه عبارة “إلى الأبد”!
فكيف لنا ألّا نخرق وصيّة الأهل المرهقة؟
وكيف لنا ألّا نحسد مجنونَ الحي الذي اعتاد الوقوف لدقيقة كاملة
مثل صنم مهذب رافعاً يده بإتقان وخبرة لتؤدّي تحيّة عسكريّة،
ثم ينفّذ ”وراء دُرْ!“ ويمضي إلى الشوارع
تاركاً الصبيّة وحيدة كلّ يوم
في استراحة الظّهيرة لمحلّ المزيّن مضر!!!