لا يمكننا ـ في ضوء الاحتفال باليوم الوطني السعودي 94 ـ تجاهل الحراك الثقافي الواسع الذي يشهده المجتمع السعودي، والذي يمثل ركيزة أساساً في التحولات التي تعيشها المملكة في ظل رؤية 2030.
هذه الرؤية الطموحة، التي أطلقها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، لم تهدف فقط إلى التحول الاقتصادي أو التقني، بل وضعت الثقافة والفنون في قلب استراتيجياتها الشاملة، معترفة بأهمية الهوية الثقافية عاملاً رئيساً في بناء الإنسان وتطوير المجتمعات.
لطالما كانت الثقافة حجر الأساس في تقدم المجتمعات، وتدرك المملكة العربية السعودية أن ازدهار أي أمة ينطلق من اهتمامها بثقافتها وتراثها. وبدخول رؤية 2030 حيز التنفيذ، أُطلقت العديد من الهيئات الثقافية التي مثلت ثورة ثقافية حقيقية في المملكة، منها، هيئة الأدب والنشر والترجمة، هيئة الأزياء، ومثلها هيئات للأفلام، التراث، العمارة والتصميم وغيرها من الهيئات التي تعمل على دعم مختلف جوانب الفنون والثقافة. لم تأتِ هذه الهيئات لتكون مجرد مبادرات تنظيمية، بل شكلت جسوراً جديدة تربط المجتمع السعودي بالعالم، وتفتح أبواباً لمشاركة إبداعاته وتراثه الغني.
لم يقتصر الأثر الإيجابي لهذه الهيئات على المشهد المحلي فقط، بل امتد إلى المحيط العربي بشكل أوسع. المملكة، التي لطالما كانت ولا تزال حاميةَ القيم والتقاليد الإسلامية والعربية، أضافت إلى سجلّ ريادتها اليوم تقدّماً آخر في الفنون والإبداع، ما أتاح للفنانين والمثقفين السعوديين الفرصة للتعبير عن هويتهم ومواهبهم بحرية. معارض الكتاب المتعددة التي تقام في الرياض وجدة وغيرها من المدن أصبحت منصات عالمية تجمع كبار المثقفين والكتاب من مختلف أنحاء العالم العربي والغربي، كما تستقطب نجوماً بارزين أيضاً من مجالات مختلفة تتقاطع مع الأدب، الأمر الذي يعزز التبادل الثقافي والحوار الفكري.
ولننظر مثلاً إلى هيئة الأفلام التي أسهمت في دعم صناع السينما السعوديين والعرب، وسمحت – ربما للمرة الأولى – في تقديم أعمال تعكس هوية المجتمع السعودي بتفاصيله وتاريخه وحضارته، ولأول مرة نرى السينما السعودية تتألق في المحافل الدولية. أيضاً، هيئة الفنون البصرية التي تدعم مواهب الفنانين التشكيليين والمبدعين والمبدعات من السعوديين، وجعلتهم جزءاً من الحراك العالمي للفن المعاصر. كما أعادت هيئة التراث إحياء التراث الثقافي المادي وغير المادي للمملكة، وربطته بجذور الحضارة العربية والإسلامية، لتعزيز الانتماء والفخر بالهوية الوطنية.
إن هذا الزخم الثقافي انعكس بشكل مباشر على حياة الإنسان السعودي، فقد أصبح الفرد في يومه جزءاً من حركة ثقافية تعزز فكره، وتجعله مشاركاً فعالاً في بناء مجتمع متقدم ومبدع. كما نلمس تطوراً ملحوظاً من خلال هذه التغييرات، في وعي الإنسان السعودي بأهمية الثقافة في الحياة اليومية، إذ صارت الفنون والآداب جزءاً من تجربته الحياتية.
كما أن إنشاء هذه الهيئات أسهم أيضا في خلق فرص عمل جديدة للشباب والشابات السعوديين، سواء في المجالات الإبداعية أو الإدارية، وفتح أمامهم آفاقاً جديدة للتطور والتميز، ودفع عجلة الريادة السعودية ثقافيا على مستوى العالم العربي، فقد كانت المملكة ولا تزال قائدة فكرية وثقافية، وقد عززت القفزات الكبيرة من دورها الريادي، حيث دعمت موضع المملكة بصفتها شريكاً قوياً في الحفاظ على التراث العربي والإسلامي، ومركزاً لنشر الثقافة والمعرفة.
يمكننا أن نجزم أن رؤية 2030 لم تكن مجرد مشروع طموح للنهوض بالاقتصاد وحده، بل كانت رؤية شاملة لبناء مستقبل ثقافي وإبداعي مزدهر. وها نحن اليوم، في ذكرى اليوم الوطني السعودي 94، نرى بوضوح كيف أن هذا التوجه الثقافي المتجدد أصبح جزءاً لا يتجزأ من هوية المملكة المعاصرة، ما يؤكد أن السعودية حاضنة للإبداع والتنوع الثقافي، وأمة تواصل التقدم بتوازن بين ماضيها العريق ومستقبلها الواعد.