تشهد منطقة الخليج العربي نهضةً جليّةً في حركة الترجمة، مدفوعةً برغبةٍ قويةٍ ومتجددة في الانفتاح على الثقافات العالمية، وتعزيز التواصل الحضاري، ونشر المعرفة، وإثراء المكتبة العربية. من موقعي كمترجمة ذات خبرة تتجاوز عشرين عاماً في هذا المجال، أرى أن هذه النهضة تجسّد تحولات جوهرية وتفتح آفاقاً جديدةً وواعدة.
تتجلى مظاهر هذه النهضة في ازدياد عدد المشاريع والمبادرات الداعمة للترجمة، وتأسيس مراكز متخصصة، وتنظيم المؤتمرات والفعاليات، وتخصيص جوائز قيمة، ودعم المترجمين العرب، وتشجيعهم على الإبداع. أعتبر مشروع “كلمة” في أبوظبي، الذي يسعى إلى ترجمة أبرز الأعمال الأدبية والفكرية من مختلف اللغات إلى اللغة العربية، نموذجاً يحتذى به في هذا السياق، ومساهماً في تعزيز القدرات المعرفية في المنطقة وتحفيز الإبداع الفكري.
في المملكة العربية السعودية، أطلقت هيئة الأدب والنشر والترجمة مبادرة “ترجم” في سبتمبر 2020، بهدف دعم حراك الترجمة وإثراء المحتوى العربي بالمواد المترجمة وتمكين المترجمين السعوديين. كما تبرز جائزة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمية للترجمة كإحدى أكبر جوائز الترجمة في العالم العربي، إلى جانب جوائز الترجمة التي يقدمها معرض الشارقة الدولي للكتاب في الإمارات العربية المتحدة، ومنحة “أضواء على حقوق النشر” للترجمة، التي يرعاها مركز أبوظبي للغة العربية، ما يعكس التقدير العميق لدورِ الترجمة في نقل المعارف والثقافات.
كما تُعد المؤتمرات والفعاليات منابر هامة لتبادل الأفكار والخبرات، حيث يُعقد مؤتمر أبوظبي الدولي للترجمة سنوياً، ويُخصص معرض الرياض الدولي للكتاب قسماً مهماً للترجمة، وأيضاً تنظّم هيئة الأدب والنشر والترجمة ملتقى الترجمة الدولي السنوي الذي يسلط الضوء على التواصل الحضاري العالمي من خلال تبادل المحتوى الثقافي. وتقدم الحكومات في دول الخليج العربي دعماً ماليا ومعنوياً لمشاريع الترجمة، وتضع استراتيجيات وطنية لتطوير هذا المجال، مما يعزز من بيئة العمل الإبداعي للمترجمين.
تُسهم الترجمة في تعزيز التواصل الحضاري بين الشعوب وتبادل المعارف والثقافات، وتثري المكتبة العربية بإصدارات حديثة في مختلف مجالات المعرفة. كما تؤدي دورًا هامًا في دعم التنمية الاقتصادية من خلال ترجمة الوثائق التجارية والعلمية والتقنية، وتعزز السياحة الثقافية بترجمة المواد الترويجية والكتب السياحية.
أشعرُ من موقعي كمترجمة بمسؤولية ثقافية كبيرة تجاه هذه النهضة، تتمثل في الحرص على جودة الترجمة بدقة وأمانة، مع مراعاة خصوصية اللغة العربية وثقافتها، وأرى من الضرورة بمكان دعم المترجمين العرب وتوفير بيئة مناسبة لإبداعهم، وتشجيعهم على ترجمة الأعمال العربية إلى اللغات العالمية لنشر ثقافتنا على نطاق أوسع. كذلك، من الضروري تعزيز التواصل بين المترجمين العرب ونظرائهم في مختلف دول العالم لتبادل الخبرات والتجارب في هذا المجال.
إنّ نهضة حركة الترجمة في منطقة الخليج العربي تُعدّ إنجازاً ثقافياً مهماً وعلامة فارقة في مسيرة التنمية الثقافية في المنطقة. علينا أن نواصل العمل على تطوير هذا المجال، وتعزيز دوره في تعميق التواصل الحضاري ونشر المعرفة وإحياء المكتبة العربية على النحو الذي يعكس تاريخنا وحضارتنا العريقة ويؤكد مكانتنا الثقافية في العالم.