“ترن ترن ترا.. ترن ترن ترا.. كان في قديم الزمان، في مجاهل الغابة كانت توجد قريةٌ مخفية تعيش فيها مخلوقات صغيرة، تطلق على نفسها سنافر..”
لعلّكم بحثتم في طفولتكم عن تلك القرية، ربما يقفز أمامكم ـ فجأة ـ مخلوق أزرق، كائنات شُكّلت من رمادية الذاكرة. كان عام 1981 ميلادهم تلفزيونياً ليغزو السنافر العالم، تجارياً وفنياً بل ولغوياً، فهل سمعتم بمصطلح “أزياء السنافر“، “يوم عالمي للسنافر“، و“مدينة للسنافر– جوزكار الإسبانية، وجهةً سياحية منافسة، مع جواز سفر بصورهم.
بالنسبة لي، فإن المتعة تتجلى متى بدأت موسيقى البداية حتى تجذبني من أذنيّ كما تفعل رائحة الفانيلا بقلوب الحلوى، فيتدفق الدوبامين سخياً كأيدي الجدات، ويصير قلبي رغيفاً مطواعاً تلوح به عجوز قبيل خَبزه، فتجمح الرغبة لالتقاء تلك المخلوقات حقاً في صيف ما.
بييو أبو السنافر، وَله يعود فضلهم، وفي الشامي نقول:”بينباس من بين عيونو” كناية عن التقدير لقاء ما أبدع، وها نحن نقبّل تلك الروح المرحة التي جادت علينا بتحفة شكّلت ثيمة طفولتنا جيلاً بعد جيل؛ لكن هل أتاكم حديث الحقيقة؟ إذ تقول: إنهم ذنوب كاردنالية جُسّدت بمخلوقات زرقاء صغيرة، وكان غارغَميل كاهناً أوكل لنفسه مهمّة تزكية النفس من تلك الشرور، بمساعدة قطه عزرائيل.
من أين لكم هذا بحقّ السنفرة؟! مضينا برفقتهم نطارد الفراشات، نحضّر التعويذات مع بابا سنفور، مخلوقات نقية تتّخذ من الفطر بيوتاً، أيعقل أن تكون بهذا الشر؟! هكذا تقول الأسطورة الشعبية. ليخرج واحد من أبنائها وبمحض الصدفة يناوله صديقه فرانكوين المملحة، حين طلبها منه على طاولة العشاء وقد أسقط اسمها:”ناولني.. الـ.. السنفور لو سمحت” لترافقهما تلك المفردة الودود طيلة الأمسية، لتُستحدث بعد ذلك بـ 25 لغة في أنحاء العالم (بالمناسبة في عائلتنا نقول المانويل عن أي شيء منسي).
حسناً، دعونا من الحقائق، فكل زيف يولّده الخيال بهدف الإبداع متعة. بييرو أو بييو الاسم الذي أخطأ به ابن عمه الإنجليزي، عمل منذ سنّ صغيرة بالفن السابع، فكان يرسم القصص المصورة، أثناء نشره لقصة الفارس“جوهان” في مجلة سبيرو، وبعد حادثة المملحة، عام 1958خلق قلم بييو السنافر، فاستضافهم في السلسلة التاسعة من قصته التي بدأها عام 1952 أطلق اسم مزحة المملحة على عفاريت زرق صنعوا مزماراً للفارس القادم من العصور الوسطى، وعلى الرغم من استياء أولياء الأمور والمعلمين آنذاك من تكرار الأطفال لغة السنافر، لم يأبه بييو، فالسنافر مجرد كومبارس مؤقتين في قصة أساسية مستمرة. أما لماذا لوّنهم أزرق؟ فبكل بساطة لأن “ناين“ صبغت أوراق الرسم لزوجها بالأزرق كلون إقصائي، الأحمر سيجعل القصص غاضبة، والأخضر لورق الأشجار، أما الوردي فسخيف، في حين الأصفر يوحي بالمرض.
بعد ذلك وبتشجيع من محرر المجلة فتح باب مخيلته على مصراعيه، فامتثلتْ السنافر مطواعة، نُشرت ضمن ملحق منفصل، تناول بييو فيها قضايا عدّة، أبرزها اختلاف اللغات المعتمدة في المجتمع البلجيكي، فجعل من قرية السنافر تختلف بجزئيها الشمالي والجنوبي لترتيب الصفة والموصوف، كناية عن التباين بين الفرنسية والهولندية ما فتح باب المشاجرات بينهم، والتي عجز بابا سنفور شخصياً عن إيقافها.
رُشق السنافر بالعنصرية؛ سنفور تلسعه ذبابة ليصير زومبي أسود يعدي كل من يعضّه. يقول مؤرخ الفن أندريه جونثرت بأن الرسومات لاتحمل الملامح الأفريقية كاملة من شفاه منتفخة ولغة عامية؛ لذا فالعنصرية مستبعدة في السنافر.
جنح أستاذ العلوم السياسية أنطوان بوينو لاستعارات سياسية، قال في كتابه (الأزرق الصغير) بأنهم مجتمع مصغر للديكتاتورية، لا مكافآت لمبادرة فردية، واجبات مشتركة، مقارنةً باليوتوبيا الشمولية هم يمتثلون لإمرة رجل واحد مشيراً للنزعة النازية والستالينية، بينما غارغَميل يجسّد صورة كاريكاتورية معادية للسامية ليهودي. جيش من المريدين الزرق دافعوا عن نوستاليجيتهم، في حين أكّد تييري كوليفورد نجل بييو أن والده غير مهتم للسياسة لدرجة أنه يسأل زوجته في الانتخابات:”لمن أصوت؟“.
هل علينا أن نشكر الصدفة التي نأت بأبي السنافر عن السياسة؟ ماذا لو أنه مكترث لها، لنوارب باب المخيلة: سنضيف سنفوراً يمينياً يسنفر الأنظمة والتقاليد، بينما سنفور يساري “كوول” يجاهد أن يطبق كل جديد حتى لو كان سخيفاً، ماذا عن بابا سنفور؟ هل سيكون ديمقراطياً يفتح باب الترشّح علانية، أم أنه سيلعب على حبل الاستفتاء والتوريث، بالتالي أولى لنا أن نسنفر بحياتنا؟