الإطلاق التجريبي

حتى نتمسّك بالقراءة

أصبح من الواضح، في السنوات الأخيرة، أن القراءة تفقد مكانتها في حياة الكثير من الناس في العالم العربي. هذا التراجع الملحوظ يشير إلى تحدٍ كبير يتعلق بمستقبل المعرفة والثقافة في المنطقة. كانت القراءة، ولا تزال، الوسيلة الأكثر فعالية لبناء العقول وتوسيع الآفاق وتطوير المجتمعات. لكن يبدو أن الكتاب، الذي لطالما كان رفيقاً للفكر والتأمل، لم يعد يحتل المساحة التي يستحقها في حياة الأفراد اليوم.

لماذا لم نعد نقرأ؟

أحد الأسباب البارزة لهذا التراجع هو التغير الذي طرأ على نمط حياتنا مع تقدم التكنولوجيا. الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي أصبحت تحتل جزءاً كبيراً من وقتنا، ما جعلنا نتعود على استهلاك المحتوى بسرعة وسطحية. كل شيء أصبح سريعاً ومختصراً؛ مقاطع فيديو قصيرة، أخبار عاجلة، وومضات من المعلومات تجعلنا نعتقد أننا على اطلاع بما يحدث، لكن دون عمق أو استيعاب حقيقي. ومع هذا النمط السريع، بات من الصعب على الكثيرين تخصيص وقت للجلوس مع كتاب، والانغماس في صفحاته بصبر وتركيز.

إلى جانب تأثير التكنولوجيا، تلعب الظروف الاقتصادية دوراً حاسماً في تراجع القراءة. بالنسبة لكثيرين، فإن شراء الكتب أصبح رفاهية لا يمكنهم تحملها في ظل الارتفاع المستمر لتكاليف المعيشة. الكتب التي كانت يوماً ما متاحة بشكل واسع أصبحت بالنسبة للبعض صعبة المنال. حتى المكتبات العامة التي كانت ملاذاً لمن لا يستطيع شراء الكتب، أصبحت نادرة أو غير مجهزة بشكل كافٍ، الأمر الذي يجعل الوصول إلى الكتاب أكثر تعقيداً.

وعلى الرغم من هذه الظروف، لا يبدو أن هناك توعية كافية بأهمية القراءة، ففي معظم الأحيان، يُنظر إلى الكتاب على أنه جزء من التعليم المدرسي فقط، حيث يرتبط بالواجبات والامتحانات أكثر مما يرتبط بالمتعة والاكتشاف. لا نجد الكثير من البرامج أو المبادرات التي تشجع الناس على القراءة للمتعة أو للتعلم خارج إطار المدرسة. وعندما لا يُزرع حب القراءة في سن مبكرة، يصبح صعباً على الأفراد اكتشاف متعة الكتاب فيما بعد.

لا يمكننا إهمال القراءة

لكن، وعلى الرغم من هذه التحديات، يبقى الكتاب نافذة لا غنى عنها لفهم العالم. القراءة ليست مجرد وسيلة لنقل المعرفة من جيل إلى جيل، بل هي أيضاً وسيلة للحفاظ على الهوية الثقافية واللغة. في صفحات الكتب العربية، نجد تراثنا وأدبنا وفكرنا، تلك الأشياء التي تجعلنا نشعر بأننا جزء من تاريخ طويل وثري. تراجع القراءة يعني أيضاً تراجعاً في الاتصال بهذا التراث الغني.

إضافة إلى ذلك، فإن الكتاب يحمل قوة لا يمكن إنكارها في تغيير المجتمعات. يمكن للأفراد، عبر الكتب، أن يفهموا قضاياهم الاجتماعية والسياسية بشكل أعمق، ويطوروا وعيهم بما يدور حولهم، تساعدنا الكتب على رؤية العالم بعيون مختلفة، وتجعلنا أكثر قدرة على التفكير النقدي واتخاذ قرارات واعية. وفي مجتمعات تواجه تحديات كثيرة، يمكن أن يكون الكتاب أداة للتغيير، إذا أُحسن استخدامه.

الدواء في الداء

ولكي نعيد إحياء حب القراءة في العالم العربي، نحتاج إلى بذل جهد حقيقي على مستويات عدة. يجب أن نبدأ من التعليم، حيث ينبغي أن نجعل للقراءة مكانة خاصة في المدارس، ليس فقط بصفتها جزءاً من المناهج الدراسية، بل عادة يتم تشجيع الأطفال على ممارستها منذ الصغر. علينا أيضاً أن نستثمر في البنية التحتية الثقافية، من خلال إنشاء وتحديث المكتبات العامة، وإقامة الفعاليات التي تحتفي بالكتب وتعرضها للناس بشكل مشوق.

ولا يمكننا أن نتجاهل دور التكنولوجيا، بل يجب أن نستفيد منها في تعزيز القراءة. يمكننا اليوم الوصول إلى آلاف الكتب الإلكترونية، وكثي منها مجاني يتيح للناس فرصة القراءة دون الحاجة إلى تكاليف كبيرة. المنصات الرقمية أيضاً يمكن أن تكون وسيلة فعالة لإعادة الناس إلى الكتب، إذا استخدمناها بشكل صحيح.

يبقى الكتاب رفيقاً مهماً للإنسان، والقراءة هي ما تفتح أمامنا الأبواب نحو عالم أوسع وأكثر فهماً، وعلى الرغم من كثرة التحديات التي تواجه العالم العربي، إلا أن الفرص لا تزال موجودة إذا استطعنا أن نعيد حب القراءة إلى حياتنا، فإننا نعيد معها القوة التي تمنحها الكتب في بناء عقول منفتحة، مجتمعات واعية، ومستقبل مشرق.

spot_imgspot_img