لا أعرف لماذا يربط معظم الكتّاب في كتاباتهم مفهوم الوحدة والغربة بالألم والحزن.
طوبى للغرباء.. قالها النبيّ في سياقٍ مختلف، لكنّي أكاد أسمع صوتاً يردّدها في كلّ مكانٍ يخرس فيه العالم من حولي وتتوقّف رقعتي عن الدّوران مع الأرض.
في منتصف شارع يخنقه ازدحامُ السير على طرقات مهترئة، تمزّقه الفوضى من جميع جهاته، تتقاتل في فضائه روائح العطور والتوابل واللحم المشوي وإطارات السيارات والحمضيات وملح البحر، وطبعاً لا ننسى النفايات والمجارير..
لك أن تتأملَ السياراتِ المتدافعةَ التي تزعق أبواقها: نفسي، نفسي! تنظر إلى ركّابها، رتلٌ باكٍ يتبع ميتاً لدفنه، موكبٌ يزغرد فرحاً بعروسين جميلين، سيدة تسند رأسها للخلف وتتأوّه، إنها ولا بدّ في طريقها للمشفى، سيدة ببطنٍ منتفخٍ يمسك رجلٌ لطيفٌ يدها ويشيران بسبابتبهما من خارج زجاج محال تجهيزات الأطفال الجدد، طفلٌ صغيرٌ حافي القدمين، نعم، حافي القدمين على الإسفلت بثياب بالية رثّة يستغلّ صفّارة شرطيّ المرور ليقرع زجاج السيارات ويلتقط ما يرميه الركاب من خلفه، الزجاج لا يمطر نقوداً.. شاحنات توزع الخضار، شاحنات تنقل الأتربة، عمال الديليفري يسابقون غضب الزبائن، كلام كلام كلام.. ضجيج ضجيج ضجيج.. حياة.. لكل امرءٍ شأنٌ يغنيه! وأنا لا يغنيني عن ضجيج عقلي وإلحاح سؤال الجدوى الثّقيل شاغلٌ!
أيها العابرون، من أنتم عندما يسدل الليل عباءته على الوجود؟
يمرّ بجانبك (بِك أب) يحمل نباتات في أوعية لمشتلٍ ما، نباتات خضراء لا تميّزها، إحداها ينبثق من منتصف ساقها برعم زهرة، لونه ورديّ غامق، ملفتٌ للنّظر.. إنّه برعمٌ عاديّ ينبت مثله على شرفة بيتي لكنّه بدا آية في الجمال وسط هذه الكركبة!
أنشغل بأحاديثَ جانبيةٍ هنا، وصراخ هناك، وأبدي رأيي بهذا، وأعترض على ذاك، “يقطع اخبارك” أقول لهذا و”يقطع عمرك” أنهر ذاك، الفظاظة الملازمة لشعوري بعدم الانتماء أحيانًا!.. أسترق النظر لهاتفي قليلًا.. ثمّ أعود أبحث عن البرعم الغريب بعيون مستنجدة، البرعم الجميل، الهادئ، الساكن، المطمئنّ.. أستكين عندما ألمحه.. يذكّرني بمحاولات إخماد نوبات تقلّبات المزاج العنيفة، حين كنت أقف على النافذة وأرنو إلى الجبال بدموعٍ دافئةٍ إذ يخرج من صدري طائرٌ ضخمٌ، أضخم من أن أستطيع ترويضه، يعلو بي إلى البعيد البعيد البعيد، يرمي بي من فوق، وقبل أن ألامس الأرض، يعاود التقاطي ويحلق من جديد.. كنت أقول لنفسي: سيهدأ.. سيهدأ.. إلى أن أغفو!
يمرّ الـ (بِك أب) فوق مطبّ إسمنتي وتهتز الحمولة، ينكشف البرعم الوردي من خلف شتلة خضراء طويلة، كمن يلوّح، كسلام الغريب للغريب..
أتذكر وديع سعادة.. و”بلا صوت لأنّ الصوت ثقل في الهواء/ لأنّ الصوت قد يرتطم بآخر…” أتذكر طاغور الذي يمشي في الأرض صامتاً ولا يعلم الناس أنه في صحبة سامية، وفي حوار من نوعٍ آخر.. أتذكر الصوفي الذي قال عن الله “إنّ التّنكّر حصننا في سرّنا/ لولا التّنكّر دُكّتِ الأكوانُ”.. ألله إذ يتجلّى بكمالِ النّور وتمام الرّحمة ودوام المعيّة..
يمشي الوحيدون والغرباء في الشوارع والأزقّة وهم يلاحظون ما لا يلاحظه سواهم. يسمعون ما لا يسمعه غيرهم. يرون بعين القلب ما لا تدركه العين البشرية.. فراسة من نوعٍ آخر.. لعنة الغريب وهو يدرك كل شيء.. متعة الغريب وهو يبصر كلّ شيء.. طمأنينة الغريب وهو يتجاهل كل شيء..
طوبى للغرباء!