تصدّر المشهد الأدبي، أخيراً، فوز رواية «قناع بلون السماء» بالجائزة العالمية للرواية العربية، للكاتب الفلسطيني باسم خندقجي القابع في السجن الإسرائيلي، والمحكوم بثلاث مؤبدات منذ عام ،2004 وتلك رواية أخرى…
بمعزل عن أحقيّة الرواية بالجائزة من عدمه؛ ذاك الجدل الذي يحوم حول أعمال فنيّة وأدبيّة تحصد المراكز الأولى في المسابقات، لاسيما الجائزة العالمية للرواية العربية، سيعرض هذا المقال قراءة أدبية/نقدية للرواية.
بدايةً لابدّ من الإشارة إلى العنوان اللافت، والذي يثير في النفس تساؤلات قد يصل بعضها لبرّ الإجابة، وقد يبقي على تجديفه نحوها؛ فتلك الهالة السريالية التي رسمها الكاتب فوق عنوان روايته منحتْ الحرّية للمحلّلين أن يجنحوا من حيث الزاوية التي أطلقوا العنان لرؤيتهم منها، كمن يقف قبالة لوحة تشكيلية، من حقّه أن يكتشف معاني لم يلتفت إليها أحد سواه.
السماء الزرقاء؛ والتي سلب زرقتها علم الكيان الصهيوني، فأراد إلباسها قناعاً يتّسع لها هي الوفية لأرضٍ تلقي التحية عليها صباحاً ومساء بلغةٍ عربيّة.
الهوية المنتحلة لشاب صهيوني والتي أمّنت قناعاً خوّل بطل الرواية أن يصل لمبتغاه بحريّة.
وربما يبقي القارئ على حيرته حتى العبارة الأخيرة للرواية، جاءت على لسان البطل مخاطباً حبيبته:«أنتِ هويّتي ومآلي» يصل أخيراً لمراد الكاتب ربما بأن القناع سواء منتحل أو مفروض لن يحجب هويّة الأرض الأصلية.
خطوط عريضة
بآلية إيهامية تنضح بالحنكة والدهاء، استهلّ الكاتب الأربعيني روايته بلعبة «الميتاسرد» حيث فكرة الرواية داخل الرواية «متعالياً على قوانين القصّ» كما قال روبرت شولز واصفاً هذا الأسلوب الأدبي. مما حفّزنا كقرّاء على الاجتهاد في تأويل النصّ واستبطان دلالاته.
اتّخذ الكاتب عموداً أساسياً بنى حوله تفاصيل روايته؛ ألا وهو«مريم المجدلية» أراد أن يجمع عنها المعلومات التاريخية متقفّياً أثرها لينقض بذلك رواية داون براون الشهيرة «شيفرة دافنشي» برواية أصيلة تنطق بلسان صاحبتها، يقول بطل الرواية مخاطباً صديقه: «أليس الاستشراق الذي هلكتني به هو من قضى على أنفاس المجدليّة في بلادنا، وجعلها ترنّم وتبتهل وتصلّي باللاتينية واليونانية والفرنسية القديمة؟» (ص25)
وضع خندقجي في بداية واضحة وعلى لسان بطل القصة نور الشهدي الخطوط العريضة لروايته المفترضة في تناص وانسجام مع أسماء لروايات ومراجع تاريخية: «غير أنني بحاجةٍ إلى لغة مرهفة متينة؛ لكي تحمل سيرة المجدليّة الروائية، وقد فكّرت مليّاً اعتماد مسارين زمنيين، زمن الماضي التاريخي، وزمن الحاضر؛ تيمّناّ برواية أليف شافاق (قواعد العشق الأربعون). إن هذا الأسلوب يناسبني»
وبالرغم من أن زمن الرواية امتدّ بين تاريخ 19 نيسان (أبريل) 2021 حتى 11 أيار (مايو) من العام نفسه؛ إلّا أن الكاتب سافر بنا نحو أزمنة عدّة، غابرة في العهد القديم وحديثة، عاد البطل فيها لأيام طفولته بتقنية فلاش باك (الخطف خلفاً)، بتوازٍ مع أحداث سارت وفق أحداث واقعية لشهر الصوم واشتباكات مقدسية بين شباب القدس وقوات الاحتلال بالإضافة لانتهاكات ومظاهرات مناهضة لخطّة إخلاء سكان «حي الشيخ جرّاح».
رافقتنا المجدلية على طول الرواية، إلا أن الكاتب وهو خريج كلية القدس للعلوم السياسيّة مرّر الكثير من الرسائل والقضايا الاجتماعية والتاريخية التي تخصّ الشعب الفلسطيني المحتل، فنلمس مفردات أدبية سياسية كالاستعمار والكالونيالية والكيبوتس.
حافظ صاحب «خسوف بدر الدين» على منطق تاريخي حاكمه بالعقل تارة، وتارة بالأدلة والمصادر، تخلّل الخطان مخيّلة يطلق لها خندقجي العنان بين فينة وأخرى: «فما التاريخ في النهاية سوى تخيّل مُعقلن!»
يخيّل للقارئ أنه أمام مكتبة تعجّ بعناوين الكتب والبعثات التنقيبية والتواريخ؛ إلا أن سلاسة السرد نأتْ بعيداً بالضجر المرافق للبحث العلمي، مقرّبة متعة الأحداث المتسارعة تناول القارئ كأساً ليرتشف من مخيّلة الكاتب الذي أغدق منها بالصور والإحداثيات والخطّ البياني الذي أراده للشخصيات، حتى أنه كوّم الكتب أمامنا لنجد أنفسنا نبحث معه عن المجدليّة في الأناجيل الإزائية والغنوصية والمراجعات والأبحاث.
لسان الراوي
تبدأ الرواية على لسان بطلها نور الشهدي؛ وهو شاب عشريني يسكن مخيماً في رام الله خرّيج المعهد العالي للآثار، يتيم الأم، ووحيد لأب ألزمه المعتقل صمتاً أبديّاً قبل أن يعتقه.
تحيط بنور الشخوص المهزومة الساكنة، فخديجة أخت أمه وزوجة أبيه الأرمل، تتناغم بصمتها مع زوجها، ليختلي نور طالب جامعة الآثار والمتاحف بوحدته في حجرة صغيرة بين أزقة المخيم المهمّش.
صديقه الوحيد مراد، أسير لدى سلطة الاحتلال، وهنا يمكن أن نرى تسريباً لأدب السجون الذي مارسه الكاتب الأسير مصوّراً لقاء مراد بأمه كل شهر: «رحلة الشتاء والصيف التي لا تهن ولا تتعب منها أمي من أجل أن تراني من وراء الزجاج العازل للمشاعر لمدّةٍ لا تزيد عن خمسٍ وأربعين دقيقة في الشهر، فإذا ما قمتُ أنا بحسم الإغلاقات التي يحسمها علينا الاحتلال بحجة الحفاظ على الأمن خلال فترة أعياده الدينيّة والقوميّة فإنني لن أرى أمي في العام الواحد سوى 450 دقيقة» (ص18).
بخفّة متناهية، يستعير الراوي لسان نور ثم يعيده في تناوب سردي مشوّق مابين ضمير المتكلّم بصيغة«الأنا» الذي يبثّ دواخل وعوالم الشخصية وهواجسها، ومابين لسان ضمير المتكلّم العالم بخبايا تلك الشخصية فيقشّرها على الورق في بنية سردية لم يترك للملل فيها ثغرة. هذا التنقل مابين الراوي الوضعي والراوي العليم، خدم آلية الكتابة المتّبعة ونسيج الرواية.
تخلّل الرواية حوارات ذاتية خاطب البطل بها متصارعاً مع شخصية أور شابيرا، الإسرائيلي الذي انتحل نور شخصيته من خلال هويّة وجدها في معطف قديم ابتاعه من أسواق القدس المدينة التي يعشق؛ انعطفت تلك الحوارات لمشهدية مسرحية يدافع فيها كل شخص عن أفكاره بحجج ثابتة تمنح صاحبها طريقه ليحاكم بها الآخر:«نور: كيف سنبلغ اللجون؟
أور: بل، قل كيف سنبلغ كيبوتس مجدو؟
نور: بل اللجون.. إنها قرية بأكملها مدفونة أسفل أقدامكم.. يا إلهي، كم أنتم بارعون بإزالة آثار الجريمة يا رجل! باللون الأخضر.. بالأشجار.. أينما وُجدت الأشجار في بلادي فتلك نكبتي.
أور: يا لحقدك يا رجل! الأشجار هي الحياة والتجدّد
نور: بل هي الموت وشواهد القبور» (ص177).
كما حاور صديقه مراد عبر تسجيلات صوتية يحمّلها على هاتفه تخصّ الرواية التي سيكتبها، فكان في ختام كل تسجيل يدافع عن نفسه أمام مراد خشية أن يلومه على تقمّص أور شابيرا مؤكداً في كلّ مرّة على طهر قلبه ونواياه.
شخصية متحركة وشخصيات ثابتة
كانت شخصية البطل هي المحرّك الأساسي للسرد وتدفق الأفكار، فارتبطت باقي الشخصيات بنور الشهدي، في حين حافظ البقية على الثبات: أب صامت، صديق يثنيه عن كتابة لا طائل منها ويدفعه نحو تفريغ طاقاته لخدمة قضايا معاصرة، مثل حيّ الشيخ جرّاح المهدّد بإخلاء سكانه، الشيخ مرسي الصوفي المعتدل المحب، آيالا الشابة الصهيونية المتطرفة الكارهة للعرب على الرغم من أنها مشرقية من مدينة حلب السورية، سماء إسماعيل الحيفاوية المشاركة في بعثة التنقيب، أيضاً البروفسور بريان الأميركي اللطيف مع أور اليهودي الأشكينازي.
وحده نور صاحب الشخصية المتطوّرة، والتي تصاعد خطها البياني وهبط بالتزامن مع الحبكة واكتظاظ الأحداث، ليتشابك الخيال بالواقع مرّات، فاتحاً باب الأسئلة كان إحداها: هل أقام نور علاقة مع آيالا الفاتنة حقاً؟ هل للبئر التي اعتقد نور أن صندوق المجدلية رُمي فيها وجود حقيقي من حيث الإحداثيات التي أشار إليها؟ وغيرها من الأسئلة التي ربما تثير فضول القارئ لدرجةٍ يترك القراءة مؤقتاً ليبحث عن مُراده في الشابكة ثم يعود.
كان النقد الذاتي حاضراٌ، فنور الذي يعرض الفكرة كما راودته في تسجيلاته المفترضة لصديقه، ثم يبررها بالنقض، كقضية التطبيع والتي صوّرها نور في أكثر من مشهد، تبرّر لصاحبها حيناً اضطراره لممارستها بشكل قسري كالهوية الإسرائيلية التي تحملها سماء كونها من عرب الداخل، بينما ينتقدها حين ناقشته بحدّة على أنه أور شابيرا أحد أفراد البعثة التي تعمل هي ضمنها:«كما أنني يا مراد أعرب لك وحدك أنني انزعجت من حديثها معي كأور شابيرا بأريحية تامّة.. أوليس هذا تطبيعاً؟! أم أن وجودها رغماً عنها في أجواء الاشتباك اليوميّ مع الآخر الصهيوني يشرّع لها الحديث مع أور هكذا دون تكلّف؟» (ص201).
صوّر خندقجي حالة التشظّي التي رافقت البطل حين دخل القدس مرتدياً القناع الذي حبسه ضمن حجرة قريبة من المسجد الأقصى دون أن يستطع زيارته كأور الإسرائيلي خوفاً من ملامحه ولا كنور اللاجئ المتسلّل للقدس خوفاً من القبضة الإسرائيلية. مرارة العنصرية التي تجرّعها على مدى سنواته الأولى حين نعته أولاد المخيم بالـ «سكناجي» كونه يحمل ملامح مطابقة ليهود أوروبا الذين التحقوا بالكيان كصهاينة أشكنازيين، أصحاب القرار والحظوة كما قالت آيالا:«أنتم الأشكنازيون لطالما عاملتمونا نحن الشرقيين بدونيّة» (ص108)، تلك المرارة التي مارست قسوتها حين منحته كصاحب أرض التجوّل في وطنه وممارسة حقّ المواطنة بالالتحاق ببعثة تنقيب عن آثار أجداده فقط حين ارتدى قناع المحتل.
كذلك في حواراته مع أور الذي يتلبسه، المتسارعة كلعبة البينغ بونغ. وهنا لابدّ لنا من وقفة…
تساؤلات مشروعة
بما أن الكاتب اختار للمتلقّي أن يشاركه بكتابة الرواية، فانتقلنا – وفقاً لرغبته – من قرّاء إلى متلقّين نملك من الوعي لاستخراج الدلالات؛ إذاً من حقّ القارئ أن تراوده الشكوك وأسئلة بعينها إذا ما أتمّ الرواية:
لماذا يعطي الكاتب بعداً إنسانياً لشخصيّة إسرائيلية؟ لماذا يسمح لشاب فلسطيني أن يُولد من مرآتها؟ هل هي خطّة الوصول للهدف عبر النقيض؟ أم هي الواقعيّة التي علينا أن نسلّم لها فنتقبل كل الآراء والأفكار التي تسبح في فلك القضيّة الفلسطينيّة، على الأقلّ نعترف ونقرّ بوجودها؟
«بالمناسبة يا مراد، هل قلت لك يوماً ما هو مقابل كلمة قناع بالعبريّة؟ إنها تشبه في لفظها كلمة مسخ، وأنا أرتدي مسخاً، بل أنا هو المسخ الذي ولد من رحم النكبة، والأزقّة والحيرة والغربة، والصمت… ولدت من رحم التهميش والتصنيف وسجنك أنت، ولدت من مرآة أور شابير ومن شركة شكيب القصّابي للسياحة والسفر… أنا المسخ يا صديقي، فهل من رحم تلدني مرة أخرى إنساناُ؟! هل من سماء أتحلّى بها نوراً ونار؟» (ص 229).