الإطلاق التجريبي

الطائرة التي تقصف غزة لا تراني الآن

لا أكتب على إيقاع موتسارت أو سيمفونية بيتهوفن، ولا أكتب على ضوء الشموع البرتقالي الدافئ، أنا أكتب الآن على وقع أوركسترا القذائف، وحولي ظلام دامسٌ لا يكسر حدته سوى أضواء الانفجارات وقنابل الإنارة.

أنا لا أعيش الحرب مرةً، أنا أعيشها مراراً، مرةً حين تصفعني أعمدة دخانها، ومرة حينما أكتبها، ومرة حينما أقرأها، وأعيشها مراراً وتكراراً حينما يرهقني التأمل في تفاصيل الحياة فيها.

بالأمس فاجأني حديث صديقتي (نسب) التي تعيش في الجليل والقدس!
التي تعيش في الجليل، أذهلتني متابعتها يومياتي للحرب. يا إلهي..
أنا هنا في غزة؛ وكلماتي تتجول في الناصرة والرامة والجليل! خذيني أيتها الكلمات هناك! خذيني فكم يشتاق هذا القلب!
تقول لي نسب بثقة: كلماتك تتجول في الجليل!
حلّ بيننا صمتٌ طويل، وأنا أتأمل حديثها وصوتها المغسول برائحة الجبل.

مر يومان، لتردني رسالتها :”جاءتني ثلاث شتلات من طولكرم إلى رام الله، حملتها القدس، ومن ثم إلى أراضي في الرامة والجليل، زرعتها في أرضٍ مطلةٍ على الجنوب، سأرسل لك إطلالة على المشهد، وصرت أقلق عليها من ريح أو جفاف، كأنكم أنتم فعلا“.

يا إلهي، لقد حولتني نسب لشجرة زيتون، لقد زرعت شجرة زيتون في الجليل وسمتها باسمي! يا إلهي ! لا أدري ما الذي أصابني حينما رأيت الزيتونة الصغيرة تحيط بها الحجارة الرخامية البيضاء، لا أدري ما الذي أصابني وأنا التي لم أر الرامة يوماً، ولم أزر الجليل، ولم تلمس يداي رهبة الجبال، ولم تتكشفْ أمامي حجب الخيال ولا أساطير القرى هناك! فأنا ابنة الساحل، نقش البحر على أصابعي أسراره وتعاويذه وأحلامه، وأنا ابنة البحر الذي ورثت عنه ميناءه الواسع ومجدافه الأفقي وعينيه الممتدتين في المدى ومعطفه الملحيّ الأزرق الجميل، يا إلهي! لقد غمست جزءاً من البحر في الجبال، فيا لقشعريرة الربا، ويا لحنين البحر، ويا لدهشة الصدف المتناثر على أصابعي!

لقد وصلتني الصورة، بينما كانت الطائرة الإسرائيلية تنفذ حزاماً نارياً في المخيم، ولكنني لم أشعر به، لم يلعق دخانه رئتي، لأن الطائرة لن تراني، ولن تصل لجذعي الممتد في (خلة القصب)، ولن تسمع صوتي الذي تلفه أغنيات العنب.

إن الطائرة لا تراني الآن وقد غدوتُ زيتونةً مغروسةً في الجليل، لا ترى طين الجليل النديِّ وهو يغمر جسدي، أنا لم أزر الرامة مرةً واحدة في حياتي، ولكن نسب تغرسني الآن هناك! أجل! إن الطائرة التي تقصف غزة لا تراني الآن وأنا أحمل هاتفي بلهفة طفلةٍ، وأنتقل به من فردٍ لآخر في البيت أريهم جذعي المغروس في الجبال، أخذت أقول لهم: انظروا، لقد زرعتني صديقتي في الجليل، أنا هنا، ولكنني سأكبر هناك!

تبتسم نسب طويلا، وأنا أقول لها: ما رأيك؟ أن أهديك معطف البحر الذي سكنته النوارس، وقبعة البحر الصيفية، ورمال المجذاف، وأنت تمنحينني بساط الغيم الرمادي وذلك الجبل الكنعاني المغموس بزيت الله، وتلك الربا الخضراء الممتدة حتى نهاية الأمد، كل الذي أخشاه يا نسب، ألا أرى هذه الشجرة تضيء وقد نقشتها سميتها باسمي!

تقول ذاهلة: “سنضيء، ونغرد نعم يا صديقتي، كوني على ثقة! المهم ألا تفقدي الأمل واستمري في كتابة اليوميات في الحرب فهي من جهة تؤرخ ومن جهة أعرف تفاصيل أحوالك!

ابتسمتُ على الرغم من اختناقي برائحة البارود، وقلتُ لها هامسةً:

تعاليْ نقسّم أحلامنا خذي معطف البحرِ ممتلئًا بالنوارسْ
خذي دمعة النايَ، قد ثقّبَ البحرُ جسر الشراعْ
خذي لهفةَ الموجِ، (دارومُ) شوقٌ يمسّدُ فرو الجليلْ
وجذعي خذيهِ، اغمسيه زمانًا يعتّقه الغيبُ في كرمةٍ باكيةْ
هنا قسمة اللهِ من كبد الطيرِ،
إن عظامي جبالٌ، وزيتونُه في عروقي مدى
هبيني جناحًا يصير عصايَ، إذا ما
خطوتُ على الغيمِ (جرزيمُ) خلفي، و(زيتا) يغمّسُ في اللانهايةِ ملحمةً صاعدةْ

spot_imgspot_img