الإطلاق التجريبي

صرخة المترجمين.. تحديات المهنة في العالم العربي

تشهد مهنة الترجمة في العالم العربي تحديات جمّة، لعلّ أبرزها تلك التي تتعلق بأسلوب التعامل الذي تتبعه بعضُ دور النشر العربية. فرغم الجهود الكبيرة التي يبذلها المترجمون لنقل المعارف والثقافات بين اللغات، فإن ثمّة عراقيل كبيرة تواجههم، منها قلة تقدير جهودهم والمماطلة في دفع مستحقاتهم.

أجور زهيدة ومماطلة

في الواقع، تتجلى هذه المعاناة في جوانب متعددة، أولها، أنّ الأجر الذي يُقدَّم للمترجم غالباً ما يكون زهيداً ولا يتناسب مع حجم الجهد المبذول، فالمترجم، الذي يمضي ساعاتٍ طويلة في تحليل النصوص وفهمها ونقلها بدقة إلى اللغة العربية، يستحق تقديراً مادياً ومعنوياً أكبر. ومع ذلك، نجد أنّ الأجر الذي يُقدَّم له لا يرقى إلى مستوى العمل المنجز.

ثانيًا، يواجه المترجمون مشكلةً أخرى تتعلق بالتأخير في دفعِ المستحقات. فبعد أن يُنجز المترجم عمله بكفاءة واحترافية، يجد نفسه في كثير من الأحيان مضطراً لملاحقة دور النشر للحصول على أجره. هذا التأخير يمكن أن يستمر لأشهر وربما سنوات، مما يُثقل كاهل المترجم بالضغوط المالية، ناهيكَ عن الشعور بالذلّ والإهانة.

هل الترجمة مهنة مستقرة؟

هذه التحديات لها تأثيرات سلبية مباشرة على معيشة المترجم. فعدم الحصول على الأجر في الوقت المحدد يجعل من الصعب تغطية النفقات اليومية مثل الإيجار والفواتير ومتطلبات معيشة الأسرة عموماً. وبالنظر إلى الأجر الزهيد أساساً، فإن هذه الضغوط المالية تجعل من الصعب على المترجمين التفرغ الكامل لمهنتهم، ما يؤثر على جودة عملهم وإنتاجيتهم.
في هذا السياق، يمكنني أن أشير إلى تجربتي الشخصية بصفتي مترجمة محترفة. لقد قضيت أكثر من عشرين عاماً في هذا المجال وترجمت -حتى اليوم- أكثر من 25 كتاباً. على امتداد هذه التجربة الطويلة، لاحظت تكرار هذه المشكلات مع بعض دور النشر، ما يجعل من الصعب عليّ أحياناً التخطيط لمستقبل مهني مستقر، أو حتى اعتبار الترجمة مهنة قائمة بحدّ ذاتها كمهنة الطبيب أو المدرّس أو ما إلى ذلك. ولطالما ذكرتُ أن الترجمةَ فنٌّ، بيدَ أنّ الفنّ يحتاجُ شروطاً بعينها كي تتجلى نفحاته الإبداعية، فكيف إذن، والواقع يفتقر إلى تلك الشروط؟
إلى جانب الضغوط المالية، يؤثر هذا الوضع في الصحة النفسية والجسدية للمترجم. فالإحباط الناجم عن قلة التقدير والمماطلة في الدفع يمكن أن يؤديا إلى حالة من الاستياء والتوتر، تؤثر سلباً في القدرة على الإبداع والإنتاجية.

كما أن لهذه التحديات تداعيات سلبية على المشهد الثقافي العربي. فعندما يُحرم المترجمون من حقوقهم في التقدير المالي والمعنوي، يصبح من الصعب جذب المواهب الشابة إلى هذا المجال ويبقى في الميدان من حوّل الترجمة إلى تجارة، ما يعني فقدان فرصٍ ثمينة لنقل الثقافات والمعارف العالمية إلى اللغة العربية على النحو الأمثل.

الاستثمار في المترجم.. استثمار في الجودة

جدير بالذكر أنّ هذا الوضع لا ينطبق على جميع دور النشر. فهناك دور نشر تُقدِّر جهود المترجمين على نحوٍ رائع، سواء من الناحية المادية أو المعنوية. هذه الدور تُعتبر نموذجاً يُحتذى به، حيث تدرك أهمية المترجم في نقل المعارف وتعزز من مكانته شريكاً أساسياً في عملية الإنتاج الثقافي.
دور النشر التي تحترم جهد المترجم المحترف تشهد نتائج إيجابية تنعكس على جودة إنتاجها. فالكتب التي تُترجم بدقة وإبداع تُسهم في زيادة معدل المبيعات والأرباح، ما يُؤكد أنّ الاستثمار في المترجمين يعود بالفائدة على الجميع. ناهيك عن أنّ التقدير المالي والمعنوي يعزز من حافز المترجمين وإبداعهم، وينعكس مباشرةً على جودة الكتب المترجمة ومستوى رضا القراء.

ختاماً، أدعو دور النشر العربية إلى الاعتراف بقيمة جهود المترجمين واحترام حقوقهم. يجب أن يُنظر إلى المترجمين كشركاء في الإنتاج الثقافي وليس كعمال مؤقتين. إذ عبر توفير بيئة عمل عادلة ومحترمة، يمكننا أن نضمن استمرار تدفق المعرفة والثقافة إلى اللغة العربية، ونُسهم في بناء مجتمع أكثر وعياً وثقافة.

spot_imgspot_img