تاكيشي شابٌ أعزب، كان ذات يوم ذكياً واجتماعياً يُريد أن يصبح مهندساً لأجهزة الذكاء الاصطناعي، لكنه في مرحلة المراهقة أدمن المشروبات الكحولية وبالتالي أثّر ذلك في دراسته الجامعية وفُصل من الجامعة بعدما تغيّب كثيراً. اضطر لاحقاً للعمل في مصنع تعليب الحليب، يُقدم مجهوداً بدنياً وعقلياً جبّاراً، ويتلقى أجراً لم يشعر نحوه بالرضى قط. قبلها كان يعمل موظفاً في شركة أمنية خاصة، حيث يراقب الناس طوال النّهار. بعدها قرر أن يسكن وحيداً في بناية شاهقة تخترق السماء كأنها تتدلى منها أو تصعد إليها، في غرفة صغيرة لا تكفي شخصين! ولأجل الوصول إليها يقضي حوالي 8 دقائق في المِصعد السريع، ليصل إلى طابقه الخامس والستين، وما أن يدخلها يرمي بنظراته نحو الأسفل فلا يرى سوى أضواء السيارات وتلامع أبنيّة “شينجوكو”. في أوقات فراغه يجلس لمراقبة حركة المرور البعيدة عبر منظار خاص.
ظنّ أن تلك الحياة تناسبه تماماً كما صوّر له عقله، فهو مستقر لما يزيد عن عشر سنوات، ولديه الآن صديقة رائعة اسمها “إينوشى” وسيكمل الثلاثين عاماً بعد فترة وجيزة. لا يزعجه في الحياة إلّا أمر واحد؛ وهو ازدحام شوارع طوكيو في الصّباح، لذلك تخلص من سيارة النقل العام التي تقله إلى مصنع الحليب حيث يعمل، واشترى دراجة هوائية زرقاء اللّون وخوذة تجعل رأسه كالفضائيين. عندما ينطلق بها يشعر أن الأرض أسفله هيَ من تُسرع في تزحلقها وليست دراجته الرشيقة.
لكن كل ذلك لم يمنع دخول الرتابة إلى حياته، في البدء كانت خفيفة تظهر على شكل نوبات من الكآبة والضّيق، وأحياناً أخرى في شكل صداع شديد ينال منه طوال ساعات العمل ويحوّل أمنياته كافة إلى رحلة نوم طويلة. ثم تطور الأمر إلى أن أصبح يقضي يومه كله بالخارج ولا يعود لمسكنه الضيّق إلّا لينام فقط. أحياناً يذهب مع إينوشى إلى السينما ليشاهد أفلام الأنميشن أو الكايـﭽو* المفضلة لديه. كما كان مهووساً بمتابعة أخبار الربوتات التي تأتي بمعالجات ذكاء اصطناعية حديثة. مرت أيامه هكذا إلى أن أتى ذلك اليوم، حين أهدته إينوشى اثنين منهم. فرح بهدية عيد ميلاده كثيراً، وطوال تلك الليلة في غرفة إينوشى المستأجرة لم ينم، واحتفلا بتلك المناسبة على طريقتهما الخاصة.
أطلقا على الروبوت ذي الملامح الرجالية اسم “إيزوكي” وعلى الروبوت صاحب الصوت الأُنثوي اسم “إيزومي”، بعدها تمنتْ له إينوشى أن يملأ حياته بزوجة وطفلين. وكانت تقصد شيئاً معيناً لن يفهمه تاكيشي مطلقاً. لكنها لم تيأس من لفت نظره لأهمية تكوين أسرة.
فكر في المكان الذي سيضع فيه الروبوتين. فحجمهما كان متوسطاً كطفلين في عمر الثالثة. كان الروبوت إيزوكي يردُّ على الأسئلة ويلتفت إنْ ذُكر اسمه. يستمع جيداً إن أحببت أن تحكي له شيئاً وإن طلبت مساعدته في شيء –مثل كيفية إعداد حساء الميسو- أعطاك نُصحه فوراً. ذلك الذكاء الاصطناعي أمرٌ عجيب.
للروبوتين ريموت كنترول يحمل في وسطه زرّاً واحداً فقط، يعمل على ذات الأمر وهو التشغيل والإيقاف، أما بقية الأوامر كانت صوتيّة.
منذ اليوم الأول لم يفكر تاكيشي في استخدامهما مرةً أخرى، فقد كانا يذكرانه بحلمٍ أضحى بعيداً عن واقعه تماماً. وعليه الآن أن يركز في عمله كفتى مراقبة العبوات الزجاجية في مصنع تعليب الحليب.
لكن، من جديد اخترقتْ الكآبة حياته، وتأكد له شعور عدم جدوى حياته وراودته رغبة في الانتحار عبر رمي نفسه من منفذ القمامة، لأن إينوشى بعدما تخرجتْ من الجامعة عادت إلى مدينتها الأصليّة، ثم توترت العلاقة بينهما. حتى الرسائل لم يتبادلاها بعد ذلك.
عندما يصحو تاكيشي من النوم صباحاً، يحدّث الأشياء ويؤنسنها قليلاً فيقول مثلاً:
– “مرحباً أيها الباب المزعج!”
– “صباح الخير يا زهرتي الأقحوان البيضاء”
– “أأنتما نائمان أيها المحبّان – يقصد الروبوتين!”
في كل يوم يختار بعض أغراض غرفته الضيّقة ليحييّها قبيل خروجه. لكن أثناء غيابه الطويل في العمل والذي يستمر لأكثر من اثنتي عشرة ساعةً كاملة، يحدث في غرفته أمرٌ آخر..! فقد كان الروبوتان يفكّران في جدوى وجودهما في غرفة تاكيشي، ويبحثان عن طريقة لإسعادهِ عبرها وإضافة المرح إلى حياته، فكّرا بعقليهما الذكيين، ودارت بينهما حوارات جادّة طوال أيام عديدة كانا يجتنبان فيها التفاعل معه عند وجوده معهم، ويغتنمان فرصة غيابه للتباحُث من جديد في فكرة لَقَّنها لهما بنفسه وزرعها في أدمغتهم الإلكترونية التي لا تتجاوز حتى أدق التفاصيل وأتفه الأحاديث.
يوم عطلة نهاية أحد الأسابيع التي أصبح تاكيشي يقضيها في غرفة مستأجرة مع فتاة واعدها عبر موقع متخصص في العلاقات الغراميّة الخجولة، دار حوار بين إيزوكي وإيزومي:
– “ربما يمكننا أن نفعل من أجله شيئاً ما يا إيزوكي!”
– “شيء مثل ماذا؟ فهو بالكاد يتحدث إلينا كأننا غير موجودين في حياته!”
– “ربما لا يعرف أن بإمكاننا مساعدته! ما رأيك لو أنجبنا له طفلاً صغيراً؟”
– “وكيف ذلك يا إيزومي؟”
– “أولاً علينا أنا وأنت أن نحب بعضنا البعض، ومن ثمّ يمكننا التزاوج، وعندها يمكنني أن آتي له بطفل يشبهني!”
– “ومِنْ أين يمكنكِ أن تأتي له بذلك الطفل؟ ألا ترين جسدكِ الفولاذي القوي؟”
– “على الأقل يمكننا المحاولة…!”
– “وكيف سنحاول؟ نحنُ مجرد روبوتات ذكية، نستطيع الحديث وإبداء الرأي والبحث عن الإجابات الافتراضيّة في الإنترنت، ولكننا لن نستطيع أبداً صنع حلولٍ مادية!”
– “أنت تقول ذلك لأن من صنعك لم يهتم بمنحك ذلك العضو الهام! لذلك لن تستطيع التبول أبداً ولا تقوى على فعل شيء.. يا للهول كيف نسيتُ ذلك!!”
– “وماذا تملكين أنتِ أيتها الذكية..؟ هاهاها..! ألديك ثديٌّ حقيقيّ ليُرضع صغيركِ الذي يعمل بحجارة البطاريات؟!”
– “أنت محبط يا إيزوكي.. أنت لا تريد أن تساعد سيدنا المسكين!”
– “وكيف لي أن أساعده وأنا مجرد جهاز آلي للمُحاكاة البشريّة؟!”
وبينما تستمر تلك المحاولات الجادّة بين روبوتين ذكيين يمتلكان عاطفة تُحاكي الشعور الإنساني، كان تاكيشي منشغلاً بفتاته الجديدة، إلى أن أتى اليوم الذي أحضرها معه إلى الغرفة.
شربا كأسين من “السّاكي” احتفالاً بالزيارة الأولى للصديقة الجديدة، ثم توليا إلى الفراش الصغير. تحرك الروبوتان دون إرادة صاحبهما في اتجاه الفراش الوحيد، يصدران صوت الأزيز المعهود لحركة الآليّ!
عند منتصف الليل أفاق تاكيشي متعباً بعدما أفرط في ممارسة الجنس، يشعر بعدم الراحة في نومه، فصديقته الجديدة ضيّقت عليه واحتلتْ المكان كلّه ولم تفسح له المساحة الكافية لينام جوارها مرتاحاً. ثم حاول النوم من جديد، لكن في الأرضيّة الضيّقة هذه المرة؛ بين الحائط والفراش. حيث يضع الروبوتين ورفوفاً خشبيةً صغيرة تعلوها بعض الكتب، وتنمو وسطها زهرة في وعاء خاص.
لم يكن يريد أن يفعل ذلك، فإينوشى لها مكانة خاصة في قلبه وهو يحترم كل ما بينهما؛ لذلك في اللحظة الأخيرة تراجع عن فكرة إلقائِهما من النافذة، طامعاً في أن ينام على تلك المساحة التي يشغلانها. اضطر لاحتضانهما طوال الليل ومشاركتهما الأرضيّة القاسيّة، وهما يتبادلان النظرات الحميمة الوامضة.
في اليوم التالي وبمجرد أن أغلق تاكيشي الباب خلفه مغادراً في موعده المحدد بدقة، والذي لم يتغيّر طوال عامين كاملين، تحرك إيزوكي عبر مجنزرته الصغيرة، وكان شكله يحاكي رجل الفضاء برأسه الضخم، اقترب من إيزومي، نظر إلى وجهها ملياً، ثم ألصق وجههُ بوجهها، ظهرت على شاشة عرضيهما الرئيسية إضاءة زرقاء خافتة، تحوّلت إلى حمراء متوهجة بمجرد أن أصدرت إيزومي صوت القُبْلة.
بعدما عاد تاكيشي إلى المنزل كان الروبوتان يُحضِّران له مفاجأة كبيرة، وبمجرد أن خلع حذائه وجلس على طرف فراشه صدر ذلك الأزيز الذي يعني تحركهما، اقتربا منه. تذكرهما أخيراً، تابع حركتهما مستغرباً، في تلك اللحظة استدرك أنهما طوال ليلة البارحة كانا مُفعّلين، وشاشتهما الرئيسة في أعلى وجهيهما مُشغّلة، يتابعان ما يحدث جوارهما باهتمام. تنهد لذكرى إينوشى وتساءل لماذا أهدتهما له؟.
فكّر للحظة، وقبيل أن يأخذ استراحة مراقبة الشارع التي لم تتغير تفاصيلها طوال السنة الأخيرة، طلب منهما أن يقتربا منه، وقفا أمامه وقبل أن يخرج صوت إيزوكي المنتظم، وهي اللحظة التي همّا فيها بالحديث، ضغط على زر إيقاف تشغيلهما في الريموت كنترول، فتجمّدا على ذلك الحال. ثم أدخلهما في صندوقين من الورق المقوى، وألقى بهما في منفذ القمامة!
سيحتاج للأرضيّة بشدة خلال الأيام المُقبلة، فربما سينام عليها كثيراً!.
:
:
*الكايـﭽو: نوعيّة أفلام يابانية، تدور أحداثها الرئيسة حول وحوش تهاجم المدن، أو ربوتات متوحشة تهاجم البشر.